|
ثقافة إنها الحرب والطعن والضرب, حيثما الفيالق تحمل على الفيالقِ, والبنادق تسطو على البنادق, وتزلزلُ الأرض زلزالها, ويلبس الجوّ اسودادها». لابدَّ لمن يقرأ هذه الكلمات, من أن يظنّ بأنها كُتبت في هذه الأيام التي باتَ الإنسان فيها يفعل ماتفعله الوحوش الضارية, وبأبناءِ جلدته ممن يمزق أجسادهم بطريقةٍ وحشية وبهيميَّة عارية. نعم, هذا ما سيظنّهُ من يقرأ هذه الكلمات, ليكتشف وبعد أن يقرأ التاريخ جيداً, بأنه يعيد ما كانَ فيهِ من بشاعاتٍ هدفها, إعدامِ الوجود والحياة والإنسان, وعلى أيدي من وَرِثوا الهمجية البدائية التي قادتهم إلى الكفرِ والحقد والقتل والدونية و البهتان. أما عن قائل هذه الكلمات, فـالأديب والشاعر السوري «فرانسيس مراش» أحد رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر, والذي لعب دوراً تنويرياً اعترفَ بالعقلِ ووظيفته, وأكَّد على أهمية التجارب الإنسانية الكونية. أيضاً, دعا إلى تقديم الحوار الحقيقي على أيِّ حوارٍ يقودهُ التعصب والأفكار الجاحدة والجامدة.. «يا بني آدم, هو ذا أنتم على شفا جرفٍ هاوٍ, وما أوقفكم هذا الموقف الخطير, إلا أولئك الذين يتَّخذون من دون العقل جهلاً يُعبد, ولا جرم إن كنتم لا تشعرون بذلك, فقد برقعوا أعينكم بظلامه, فإلامَ أنتم كالجمادِ غير المتحرِّك لا تشعرون إلى أيّ منقلبٍ تنقلبون؟».. هذا مادعا إليه «مراش» وبعد أن انطلق من مسقط رأسه ودراسته «حلب» إلى «باريس» حيث تأثر بأدبائها ومفكّريها التنويريين, وحيث شعر بمقدارِ ما أفقرَ وأنهكَ الاستبداد العثماني بلاد العرب وعِبادها, وبمقدار ما أحالها من مُزهرة إلى مدمَّرة, وهو ما انعكس على أبنائها وعلى تفكيرهم ووعيهم. أولئك الذين ما أكثر ما خاطبهم وفي أكثرِ من كتابٍ ومقال: «هبّوا من رقادكم يا جميع أبناء الوطن. تحرَّروا من قيود الجهل وامتلكوا حرية العقلِ, فلا يتسلط عليكم عدوٌ مُغتصب. عليكم بالسعي وراء العلم دون اكتراثٍ بأعدائه الذين لرعايةِ أغراضهم يوسوسون في صدور الناس عن مقتِ التعليم, ولأن من هؤلاء الأعداء من يرى, بأن العلم يضرُّ بسلطته وهيمنته. ومنهم من يرى, بأنه يضرُّ بخرافاته وشهواته. ومنهم من يرى, بأنه يضرُّ بأكاذيبهُ وأضاليله». كل هذا, إضافة إلى المقالات العديدة التي كتبها «مراش» وحرَّض فيها على العلم والوعي للتحرر من الاستعمار والجهل. أيضاً, بالرغم من مؤلفاته «غابة الحق» و»مدينة فاضلة» وسواهما مما ركَّز فيه على أهمية تنويرِ العقل. بالرغم من ذلك, إلا أننا لازلنا ومنذُ دعوته حتى وقتنا الحاضر, بحاجة إلى العديد من الأدباء والمفكرين والتنويريين, ومن أجل أن يخاطبوا أهل الوطن بما خاطبهم به حين قال: «هلِّموا يا بني الوطن إلى التمسك بالحقِّ, فلا يصحُّ العلم والعمل إلا به, ففي الحقِّ تهذيبُ روح العلمِ والمعرفة بأحوال أرضكم وبلادكم وتجارتكم وكل أعمالكم.. هلِّموا وادخلوا مراسحَ العلمِ والمعارفِ والآداب, واخلعوا عنكم أسمال الجهلِ والغفلة.. كونوا أبناء هذا العصر الجديد.. كونوا العقل الذي يردُّكم عن الجهلِ البغيضِ والعنيد». |
|