تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


يوميات خريفية

معاً على الطريق
الإثنين 13-10-2014
أنيسة عبود

كلما وقفت أمام ورق الخريف.. أشعر أن الفصول جميعاً غادرت وطني ولم يبق إلا الورق الأصفر الذي لا يشبه ورق (فيروز) ولا ورق أيلول في قريتي.

وإذا كان ورق الخريف يرجعنا في الذاكرة إلى الصيف والبحر والرحلات والأجواء الأهلية الجميلة, فإن الورق الأصفر الآن يأخذني إلى حمص وإلى أطفالها الذين تركوا منازلهم الواسعة واختاروا بيوتاً صغيرة تحت الأرض ليناموا بهدوء بعيداً عن القتل والدماء..لن يحتاجوا إلى شموع.. أرواحهم الضوء والشموع. ولن يحتاجوا إلى رأفة أم , التراب يرأف بعصافير صغيرة لم تكمل إفطارها ولم ترتب سريرها. ولن يملؤوا الشارع بصخب الدروس. كما لن يحتاجوا بعد الآن إلى حقائبه الثقيلة..غادروا هذا العالم المتوحش , حاملين دمهم, ومضوا إلى عالم الخلود والنقاء.. لم يعودوا ورقاً أصفر في شجرة الحقد والموت. صاروا النيازك العالية التي تمر بضوئها على حمص وعلى ( حي عكرمة ) تهدهد فوق الأبواب وتمسح على رؤوس الأمهات كي يصبرن.لكن الأمهات يتنحين في زوايا الصبر وينادين الأطفال..غير أن الأطفال لن يردوا لأنهم ينامون بعمق بعد أن تخلصوا من رماد هذا العالم ومن جيفه ووحوشه.‏

ورق الخريف لم يعد يوحي لي بالصمت والتأمل..ولا بأبواب المدارس ومراييل التلاميذ.إنه يوحي لي بالفراغ والعدم..إنه اللحظة الأخيرة ما قبل الموت الذي يملأ بلادي..موت في حمص وموت في عين العرب , وموت في درعا ودمشق وكل الأرجاء. أشلاء تتبعثر كورق خريف.. أرواح تطير ورؤوس تتدحرج والخريف يعم الأرض ويعمّ النفوس ولا يتأخر عن موعده.‏

خريف.. وبرد روحي..لا مطر ولا غيوم سوى غيوم الدم..من الذي حمل هذا الخريف إلى بلادي ؟ هل كنا مستعدين لهذا الخريف القاتل؟ هل كانت بذرة الشر في ترابنا ولم ننتبه؟‏

ربما.لكن الخريف أتى ولم تأت غيومه معه..هطل الورق الأصفر ولم يهطل المطر..وهطل الشرّ كله واندلق في الشوارع.. لم نعد نمشي على ورق الخريف ولم تعد الرياح تذرّي نسمات تشرين الباردة.ولم يعد قمر الخريف يسطع في سماء الوطن.صار لنا أقمار دامية..وصارت لنا سماء دامية..وصرنا نشتاق لخريف كان هناك في حقول القطن يتجول وفي كروم الزيتون في إدلب وحلب يسهر..كان لنا ذاك الخريف الناعم الذي يشتت القلب بين الشوق والصمت والتذكر.لم يعد لنا إلا ورق جاف وقحل وأجساد أطفال ممزقة وقلوب أباء محترقة..فكم خريف ينتظرنا وكم خريف بقي حتى يأتي شتاء أخضر؟‏

شباب الوطن يموتون وأشجارنا تموت.. مواسمنا تموت.. وبيوتنا يصدح فيها الخراب.. لا مكان للمدارس. لا مكان للكتب.كل الأمكنة للقتل والدمار..كل الأمكنة للبكاء على سوريا.. وعلى أبنائها البارين والعاقين.لأنهم بالنهاية هم أبناء هذا الوطن الذي نقوده بيدنا ونسلمه للغرب الغاشم وللعثماني الحاقد.‏

خريف, وجفاف..والمطر يأبى أن يأتي.كأن الغيم يعاند الدم.. جوع وفقر وسوريون يعيشون في خيام على مساعدات الدول التي هي أساس الدمار..كلهم يتاجرون بنا وبأجسادنا وأعراضنا.. العثماني والأميركي والخليجي..كلهم يبكون علينا كي نبقى في خيام اشتروها لأجلنا..ودفعوا ثمن الرصاص لأجلنا فلماذا لا يستقبلنا ملوك النفط في ديارهم؟ وفي مدنهم طالما هم حريصون علينا وعلى كرامتنا وحريتنا ويصرفون ملايين الدولارات على برامج إعلامية تتحدث عن مصائبنا؟ هم قادرون فقط على الكلام ونصب الخيام والتجارة بنسائنا وجوعنا ودمنا وشبابنا..؟ ألا بئس إخوة.. وبئس حرية تشردنا وتجعلنا شريط أخبار عاجلة على تلفزيوناتهم وفي نشرات مجالسهم.لا بد أن الدور قادم.. ولا بد أن يدفع الثمن غالياً من أراق الدم السوري الطاهر.. لا بد أن يذهب هذا الخريف الطويل ولا بد لهذا الليل أن ينجلي.. سينزل المطر لا محالة وستخضرّ الحقيقة وستعود سوريا كما كانت عامرة..ستخضر مزارع القطن والقمح والزيتون..وسيعود السوري كما كان سورياً أبياً لا يقبل أن يكون في قصورهم ولا في خيامهم لأن الحر يجوع ولا يبيع وطنه.. عش عزيزاً يا وطني.. قريباً سينزل المطر الأسود على الكاذبين المنافقين.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية