|
ثقافة
هي لحظة وحشية ودموية من الحرب العالمية الثانية. نحن على الجبهة الشرقية السوفييتية في الأشهر التي تلت الحرب العالمية الثانية: «إيفان» صبي صغير يعمل ككشّاف خلف خطوط العدو. قتل الألمان والدته وشقيقته، هو الآن يتعامل مع الواقع برغبة كبيرة, بل بحاجة للانتقام, وهو يملك القدرة والشجاعة المذهلة وكذلك الحيلة. هكذا قدم المخرج الكبير «آندريه تاركوفسكي» فيلمه «طفولة إيفان» والذي أخرجه عام 1962, وأعيد الاحتفاء به أكثر من مرة (وقد عرضه معهد ATLC في دمشق مؤخراً ضمن تظاهرة أفلام الحرب) جميع الشخصيات الرئيسية في الفيلم عانت من خسائر شخصية مدمرة. ينسج الفيلم على نول الحرب قصصاً تتعامل مع حُب الشباب, وحيث لا تزال بعض الشخصيات تملك الوقت لمناقشة الفن والكتب والاستماع للموسيقا. بطريقة ساحرة يُفتتح الفيلم حيث يظهر «إيفان» البالغ من العمر 12 عاما بشعر ذهبي في يوم مشمس، في حضن أمه وصوت الضحكات يتعالى ويتصادى لكن كما في حلم, وحين يستيقظ نراه في واقعٍ صعب, كطفل يائس، يزحف ويخوض في مستنقعات ويعبر الأسلاك الشائكة المتناثرة ويحاول البقاء على قيد الحياة في منطقة تأكلها الحرب. يملك إيفان من الغضب والشجاعة, ما يخوّله اتخاذ القرار بتقرير مصيره, ورفض كل الأوامر والاقتراحات بدخوله ملجأ الأيتام, أو الالتحاق بالمعهد الحربي, بعنادٍ ذكي يتمسك بموقفه ويقنع أحد القادة, باستخدامه ككشاف خلف خطوط العدو, وذات مهمة يذهب ولا يعود. في الحرب ينمو الأطفال وينضجون بطريقة عجيبة, يتشكلون بخلاف ما كان عليهم أن يكونوا, يتحملون مالا يتحمله الأطفال في زمن السلم. يختبرون مشاعر وعواطف ومواقف غاية في الصعوبة. كيف يمكن التعامل مع عناد أطفال تشرّبت ذواتهم غضب وقوة الانتقام لأرواح أحبة قتلوا على مرأى من عيونهم؟! في فيلم آخر «الحياة جميلة» وفي معسكر نازي كبير للاعتقال زمن الحرب العالمية الثانية كذلك, نرى ملمحاً آخر للحرب, الأب وطفله البالغ من العمر ست سنوات في ذلك المعسكر, والأم معتقلة أيضاً لكن في معسكر مجاور للنساء. مشاهد تقتطع من الروح أماكنها, مشاهد لن تدعك ما كنت عليه قبل مشاهدتها.. مشاهد بسيطة غير مفتعلة, لا شعارات فيها, ولا أقوال كبيرة, إنها ببساطة مشاهد إنسانية, كوميديا سوداء خالقة, فهل تضحك أم تبكي؟ يحاول الأب هنا أن يقنع طفله بأن كل ما يجري في هذا المعسكر هو لعبة, مجرد لعبة والفائز فيها في النهاية يحصل على جائزة كلما سجّل نقاطاً أكثر. وعبر سلسلة من المواقف المشغولة برومانسية في زمن القتل والتعذيب وإهانة الكرامة, يحمي الأب طفله من انعكاسات الحرب, هكذا صارت ساحة معسكر الاعتقال وسيلة للعب والتسلية, ويتمكن الأب فعلياً من حماية طفله بكل المعاني, إلى أن ينهزم النازيون, ويدخل المنتصرون, فيجد الطفل نفسه وحيداً تماماً في ساحة موت صامتة.. صامتة.. يبحث بعينيه.. وحين تتقدم منه دبابة المنتصرين, يهلل ضاحكاً: نعم لقد كان ذلك صحيحاً, لقد أخبره والده أنه في نهاية اللعبة قد يفوز بجائزة كبيرة: دبابة! قُتل الأب ببرود في مكان ما من المعسكر بعيداً عن عيني طفله, والتقى الطفل أمه أخيراً. كم هو جميل أن تتمكن السينما من معالجة أقسى وأبشع ظاهرة بشرية, أي الحرب, بشيء من الشعر والرومانسية, لتظهر لنا جسامة وفداحة خسائرنا, ليست الخسائر المادية فقط, بل الروحية! كم من المهام الجسيمة ملقاة على عاتق سينمانا السورية, وكم من القصص يمكن أن تتحول إلى أفلام توثق للعناء الإنساني الذي عاشه السوريون جميعهم, وبخاصة الأطفال, لكن بعيداً عن مباشرة الشعارات والإيديولوجيات.. نحتاج أفلاماً ترصد المعاناة الإنسانية بطريقة لافتة, بحيث لا ندري حقاً هل نضحك أم نبكي! |
|