تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


تنكـــــة ســــمن

رسم بالكلمات
الاثنين 1-6-2009
أحمد نور الدين  قـطليش

الليلُ مساحةُ صمتِ الجسد, لتُعفى تجاعيدُ آلامهِ بكفِ السكونِ وتعتملَ في الروحِ هواجس الذكريات.

الذكريات المستعرة في الانبعاث يوم ميلاده.‏‏

لنذهب إلى مكانٍ آخر , سورية الجنوبية , أيار, من عام ألفٍ وتسعمئةٍ وأربعةٍ وسبعين. نظراتهُ الجاثيةُ على وجهها ما فتئت تنخرُ فيه لتكشفَ أنهُ المختنقُ بطهرِ أرضٍ انصهرَ بخلاياها لاجئاً آمناً مذ شرعوا باللجوءِ غير آمنين عندما صيِّرت لأجلهم لفظةُ «النكبة».فتتت أمهُ محاولاته في الإيغارِ أعمق...‏‏

- البدوية «نزهة» أتاها المخاضُ وهي في الحصاد ولدت وصرت طفلها لوحدها وتابعت عملها... يا لجبروتِ العربيات. نزعَ إلى طمرِ الخجلِ المتنامي من ملاحمه. ألم تنتهى منْ تجديلِ هذا الحبلِ بعدْ ؟!... وصمتٌ خُلقْ. تململَ وراحتْ شفتاهُ تنهرصان قبل أن تستطيعا دفعَ قلقِ تساؤلٍ تعاظمت رغبتهُ في التعري من سريرته.‏‏

- هل انتصروا منذ أشهر ؟! هلْ خرجوا منَ الحربِ منتصرين ؟!... إذاً لماذا لمْ نعدْ إلى دارنا حيثُ منْ تحلفينَ برؤوسهم كلَّ يوم؟!‏‏

ألقتْ إليهِ الحبلِ ورمتْ بهِ خارجَ سياجِ البيتِ الحجري, لتؤوبَ إلى غسيلٍ برمَ منَ الدعكِ بيدين لا تلتفتانِ بدفئهما إلا لدعواتٍ وصلواتٍ تهفها الروح لأجل دارها حيث ثمَّ منْ تحلفُ بمفاتيحهمْ كلَّ يومْ.الحبلُ أصبحَ في يدهْ وينقصهُ الآن «تنكة» سمنٍ فارغة.استحضرَ كلماتِ جدهِ المتساقطة كزهرِ لوزٍ يبحثُ عن تربةٍ خصبة!:‏‏

«تنكة» سمنٍ فارغة وحبل هما ما تحتاجهُ لتستطيعَ السباحةَ في البركة.أحكمْ إغلاقَ العلبةِ المكعبة واربطها بحبلٍ على ظهركَ واقفزْ إلى الماء لتطفو بك كما تطفو الشهادةُ بأرواحهم للبعيد...لنا الحبالُ وللأغنياءِ الأحزمةُ فهم يستعيضونَ عن الحبالِ التي تجدلها النساء بالأحزمةِ الجلدية ,,, لا لشيء إلا للتمايزِ فتلكَ الأحزمة تتركُ سيوراً جلدية ملتهبة على الجسد.‏‏

لو أن أمهُ تقبل أن تأخذَ تنك السمن من وكالة اللاجئين لحظي بواحدة ولما احتاجَ أن يسدرَ في الأروقةِ العشوائيةِ متأملاً أن تنبجسَ له الأرضُ بواحدة.‏‏

يتابعُ جرَّ أقدامهَ في الترابِ متمتماً بحنق :‏‏

- « إن أخذناها فنحن نأخذ ثمن الأرض » ضجرتْ من هذه العبارةِ التي تكررينها.. ما علاقة السكر والأرز والشاي , السمنُ والزيت الذي يوزعنه بالعودة؟‏‏

ظلَّ يردد تلك الجملة يغنيها تارةً ويحكيها, بتهدجٍ ساخرٍ تارةً أخرى, وتارة تتراقصُ أقدامهُ على وقعها فيرنم جزءاً منها ويتركُ لأقدامهِ أن تعزفَ لآخر. فجأةً انبجست الأرضُ بعلبِ السمنِ الفارغة !شاحنةٌ تابعةٌ للوكالة كانت قد قُلبت هاهنا وتمَّ سحبها.‏‏

أخبرته بذلكَ بقعة الأرض المتعرقة بالسمنِ والزيتِ المخلوطين بحمولات الوكالة من أرزٍ وخلافه, المهم أنه وجد علبَ سمنٍ فارغة. استلب إحداها وتقافزَ إلى البركة. كان مع هرولته يحاولُ إحكامَ الطرقِ على الغطاء بعد أن حشى أطرافه بما استطاع أن يلملمه من مزق أقمشةٍ بالية فهو لم يحتكم على قرشٍ واحد ليستطيع أن يلحمهُ عند الحداد. وصل إلى البركة والأرض التي تفضلتْ عليهِ بتلكَ العلبة لم ترض عوضاً عنها إلا ابتلاعه !‏‏

بضع أطفالٍ وشبانٍ يسبحون والكثير من العلب الملقية على التراب تركها أصحابها بعد أن عافوا السباحة... رمى «تنكة» السمن الفارغة التي كان يحتضنها وفرَّ باكياً كذئبٍ يبحث عن حافةِ الأرضِ يتوحدُ معها ويصرخ... ويصرخ...وعند القاع.. الحبل , الأحزمة الجلدية , البندقية , الوكالة , اللاجئون , علبة فارغة , الأرض.. كلماتٌ أخذت تعبث بفكر ذاك الفتى الصغيرِ الواقفِ على سقفِ غرفةٍ يُخزنُ فيها التبن. كان السقف مكونا من ثلاثة أقواسٍ تضج بالعظمة تصلُ بينها صخورٌ بازلتيةٌ ضخمة ويسترها التراب, تتوسطها فتحة ليلقى التبن منها. ظلَّ يحملق من فتحة السقف في ذاك الاتساع حيث أخذ المساء يشرب الضوء المتبقي. دفعه أحد مجانين القرية فأسقطه من تلك الفتحة لم يعنه أي ألمٍ طاوله, لكنه شهقَ جراء خوفٍ عمّدته به جنية العتمة. يعود الحبل الذي لا يزال في كفه ليمسده بطمأنينة أم يتناهى إليه رجع صياحهاعلى أب ذلك المجنون...‏‏

(الجسد مساحة صمت الليل ليكف السكون تجاعيد آلامه ويتذكر اعتمال الهواجس) علمته ملائكة العتمة كيف يحافظ على هدأته إلى أن تلتقفه أمه فظلَّ يهمهم : «إن أخذناها فنحن نأخذ ثمن الأرض » «إن أخذناها فنحن نأخذ ثمن الأرض ».‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية