|
آراء تجاوز الثمانين قليلاً، ولم يزل على شيء من المقدرة البدنية والذوقية.. والغرام ودعه، منذ رحلت أم غنوم تاركة له عمارة من الأولاد والعشق المغفل من رسوم الإنفاق، لأنه نائم، مثلما تنام الأشجار في العطش الكاسح: ولد بغرفة وزوجة وآخر بزوجة وغرفتين. وآخر بأولاد ولا غرف.. والبنات هكذا أحوالهن. منذ وقت التقيته عند جاره صاحب المغسل، وكان يستعد للعب في (المنقله).. وهذه اللعبة القديمة تحتاج إلى ذكاء.. - كيف أوضاع اللعب؟ - المختار يلعب لعباً كسولاً وكسيحاً مثل عشقه. - هل يرسب؟ - رسب يوماً في العشق واليوم يرسب بـ (المنقله).. استمع إلى حكايتنا: آخر الأيام الفرنسية، كنا نشتغل في تعبيد الطريق، وفي بناء البناية القديمة التي تراها.. المختار وصديقه أبو شهاب حاولا جذب اهتمام أم الجدايل.. أثناء حمل الأكياس، كل واحد منهما تبارى مع الآخر في حمل المزيد من الأكياس. حط وحط كيساً وراء كيس.. وبعد خطوات سقطت الأكياس، وفشلت محاولة العشق.. أما عمكم أبو غنوم فظل هادئاً متماسكاً قوياً وأتم حمل الأكياس وهندس الحيطان التي يتبنى أساساتها ويهندس نظرات قلبه المسافرة إلى قلب أم الجدايل.. يومها أطلقت اسم عمارة أم الجدايل، وبقيت العمارة والأم والجدائل.. اختلفت مع الصديقين إزاء نظرات العشق الأولى وحين ضغط علينا المشرف المحتل، ذهب الاختلاف وتعاونا.. وبنينا بيتاً كبيراً واسع الغرف والشرفات والاطلالات، وأسميناه بيت الوطن. غرفة المحبة وغرفتان للعهود والمسرات الوطنية، وغرف تالية للنسمات تقبل من جهات الجبال والتلال وترحل في السهول والبساتين وصولاً إلى المدن والبحر والمدى المترامي.. واتسع البيت لحب كبير وكثير واستضافت الشرفات عناقاً بعد عناق ونظرات بعد نظرات. ولم نزل كلما ضاقت بنا أحوالنا نأوي إلى أوجاعنا الوطنية الجيدة التي تركناها عند حيطان البيت وفي غرفه. كل واحد يساوي مافي قلبه من وطن ونظرات عشق.. أي واحد منا لايزيد عن الوطن الذي في عمره وحياته وعن النظرات التي تحرص ألا تذبل.. النظرة الحلوة شجرة في حنين القلب والشوق.. والوطن الراقي جميع شجرات القلوب والأشواق.. والذي يدعو للعجب: الذين يحيون بلا قلوب بوطن وبلا نظرات حلوة تشفع لعيونهم بالعشق والتآلف الجيد.. - والعيش يا أبا غنوم؟ - الرغيف الوطني فيه من كل حطب نكهة ومن كل جوع عضة ومن كل أصابع همسه وهمه ولمسه. رغيف مشترك حنون ذو نكهات أصيلة لايخطئها الذوق ولاتخطئها الأفواه التي تأكل من أجل أن يبقى الإنسان...والأفواه هذه بقدر ثقتها بالرغيف الوطن تثق بالحب الوطن، وتحكي حكايات الوطن وتعيش وتهنأ بالثقة الوطن.. الوطن فكرة واسعة لاتتجاوزها خطوات الأفكار مهما بالغت بالسفر والسياحة... أبو غنوم الوطني لم يتعب رغم عهده الطويل بالبناء ولم تتعب وطنيته الصادقة وعلاقاته الحنونة مع أصدقاء من مختلف الأنحاء والأرجاء... ورغم أنه لم يحصل على الشهادات العليا حسب تعبيره إلاأنه يفكر أفكاراً وطنية جامعة ويتحاور مع أصحابه البعيدين ويزورهم في المدينة والجبل وهم يزورونه ويستفسرون عن أيامه وبقائه ونظراته الباقية، والعمارات التي يشارك في رفع حيطانها وفتح نوافذها... بنايات وغرف وشرفات وشبابيك شارك في أحجارها وهندستها الرجل الوطني العتيق... وأمام غرفته رغيف لاينتهي اسمه رغيف المحبة.. وفوق رأسه حيث ينام أفكار وأحلام تعلو، وتنخفض لكنها ترجع إلى فكرة كبرى شاسعة... وطن أبوغنوم لايختلف عن الجميع بل يشبه الرجال والنساء والأطفال والكبار..والعشق والأرغفة والحقول.... والبحر والسفر والقرى والمدن...يشبه الأمواج والأغصان والأماني... وطن حلو وعذب وبسيط ليس معارضاً وليس موالياً... إنه وطن يشبه الناس الأبناء والناس الإخوة الأحباب.. وطن يعود إلى عافيته عند كل أزمة حادة وهلاك أعصاب وتمنيات...وطن يتجاوز النقاهات التي يفرضها المرضى والمرض عليه... وطن يتحدر من كل وجدان وطفولة وأعمار وحياة وشجر وكروم وحرية وسماء وماء.. وطن بكامل عافيته في القلوب والنظرات والعيش ولأنه بهذه السلامة والصلاحية والرقي يمحو العيوب عن دفاتر أولاده وعائلاته كما يمحو الطالب كلمة خطأ عن سطر قلبه ودفتره..ويمسح المرارات عن الأرغفة المتعثرة بالاحتراق،ويحذف العثرات الكبيرة والصغيرة من الأيام والدروب والأفكار، ليعود إلى ربوع الفكرة الزاهية الوافية الكافية. |
|