|
آراء منذ خمس سنوات، وربما أكثر لم يلمع اسم شاعر في هذا الوطن الجميل، الشعراء الكبار يتناقصون ولا يأتي واحد من مستواهم. هل ماتت قريحة الشعر السوري ؟ سورية الجميلة، بجبالها الخضراء ومدنها العظيمة وبساتينها المثمرة، ولا أجد شاعراً يرى هذا الجمال.. نساء دمشق اللواتي جمالهن بخجلهن ، نساء حلب،حمص والقامشلي أجمل النساء. و لا أجد شاعراً يكتب فيهن قصيدة. هل جدبت أرض الشعر،جفت ينابيعه. أين شاعر جديد بمستوى بدوي الجبل أو عمر أبو ريشة أو نديم محمد أو وصفي قرنفلي، نزار قباني وأدونيس ومصطفى عثمان وشوقي بغدادي وسليمان العيسى ؟ أين الشعر أين الشعر؟ أين من يهتم في الثانويات والجامعات بالشعر؟ لا الأساتذة ولا الطلاب يهتمون. أذكر أنني كنت طالب كفاءة «بروفيه» في الكلية العلمية الوطنية التي كان مديرها عثمان العائدي طيب الله ثراه. وكان أستاذ العربي الراحل الكبير قدري الحكيم أعطانا ذات يوم دروساً في عروض الشعر فما كان مني إلا أن ألفت قصيدة من ستة أبيات وقدمتها له في درس للإنشاء. ذهل، ولكن وجد لي أخطاء في العروض وأشار إليها، ثم قرأ على الطلاب القصيدة بأخطائها وكتبها مجدداً على السبورة وصار الطلاب يناقشون الأخطاء في حصة درس من أجمل ما مر في حياتي إلى أن التفت نحوي وقال: لا تذهب إلى الشعر ولكن أبشرك أنك ستصبح كاتباً كبيراً في المستقبل. اقرأ كثيراً، وكتب لي على ما أذكر اسم نحو عشرين كتاباً وطلب مني قراءتها وتلخيصها. للأسف لم أستمر في الدراسة، لأنني تركتها وانصرفت اضطراراً للعمل في فرن والدي.. ولكن لم أتوقف عن القراءة وكتابة الشعر، وبدأت أنشر في الصحف ما أكتبه وصاروا ينشرون لي ما أكتبه، حتى صار اسمي معروفاً.. ومصادفة، بعد عشرين سنة تقريباً، سمعت صوتاً يناديني في الشارع، ربما في ساحة المرجة، التفت فإذا به أستاذي قدري الحكيم. اقترب مني وقبلني من جبيني مذكراً إياي بأنني سأصبح كاتباً كبيراً.. كان ذلك في الزمن الجميل، عندما كانوا يعلموننا العروض ونحن في الصفوف الأولى من الثانوية. يتحدث الفيلسوف الهندي«أوشو» عن ضرورة تعليم الشعر في المدارس الثانوية والجامعات، فرب موهبة تتفجر فجأة، ويروي شيئاً من تجربته فيقول: إننا نعلم أولادنا التاريخ والجغرافيا والرياضيات ولا نعلمهم الشعر. وإذا صادف وعلمناهم الشعر، فنفعل ذلك بأسلوب ممل، مسيء للشعر، حتى اذا ما تخرج التلميذ في الجامعة سرعان ما ينسى ( عندنا مثلاً بدوي الجبل ومحمود درويش وعمر أبو ريشة وغيرهم من العمالقة) وكما قال أوشو سرعان ما ينسى الطالب شكسبير وميلتون. حتى إن ذكر أسماء شعراء من هذا الوزن قد يتسبب له بالغثيان.. لم يتعلم الشعر بأسلوب يحببه فيه. لم يعلم كيف نظم الشعر. ولا أهمية له في حياة بني البشر، لقد اتبع الأساتذة أسلوباً.. يجعل الشعر مكروهاً وغير محبب حتى أنا شخصياً - يقول أوشو - صرت أتغيب عن حضور صفوف الشعر ما اضطر المدير سؤالي عن سبب ذلك. وبكل بساطة أجبته: أفعل هذا لأني لا أريد أن أفقد اهتمامي بالشعر. ولأنني مدرك كل الإدراك أنكم، أنتم الأساتذة لا تملكون حساً شعرياً وحتى لم تعرفوا أهمية الشعر في حياتكم، حتى أستاذ مادة الشعر الذي أشاركه رياضة الصباح كل يوم، ما رأيته مرة ينظر إلى الأشجار أو يصغي إلى زقزقة العصافير ولا يتأمل شروق الشمس أو غروبها.. وهذه الأشياء مادة من مواد الشعر. وقال: الجامعة محاطة بعدد من الهضاب ما يجعل شروق الشمس رائعاً. وكذلك منظر غروبها. حتى الغيوم تتلون بألف لون ولون يجعلها تعكس ألوان الشروق وغروبه لدرجة أن الأعمى يتحسس ببصيرته هذا المشهد ويدرك ما لهذه الظاهرة من أهمية جمالية، لم أر أستاذ مادة الشعر ينظر إلى هذه المناظر لم يكن يتعب نفسه بالنظر الى غروب الشمس، لابل كان حين يراني منسجماً برؤية هذا المنظر أو أتطلع إلى الأشجار وأصغي إلى زقزقة العصافير، كان يسألني: لماذا لاتنفذ التمارين الرياضية المطلوبة منك، بدلاً من الجلوس هكذا. وكنت أجيبه: أكمل أنت تمارينك ودعني في لقائي الغرامي هذا. حين تمطر. كان يبقى قابعاً في منزله، فأذهب إليه، أقرع بابه وأدعوه للمجيء معي، فيجيب: إنها تمطر.. وكنت أقول له: «إنه أفضل وقت لممارسة رياضة المشي، فالشوارع خالية، والمشي تحت المطر ودون مظلة أمر رائع وشاعري». فاعتبرني مجنوناً لأنه لم يكن يدري أن من لا يمشي بين الأشجار تحت المطر لا يستطيع إدراك أهمية الشعر، ولهذا السبب كنت أجيب على تساؤل المدير: «إنه -أي الأستاذ- ليس شاعرياً، إنه يدمر رهافة الروح عند طلابه، إنه منهجي جداً، والشعر ظاهرة وجدانية غير منهجية، لذلك، فهما، الأستاذ والشعر أشبه بخطين مستقيمين لا يلتقيان. إن أسلوب التعليم الجامعي يقضي على اهتمامات الناس بذواتهم وعلى حبهم للشعر، ويجعل الحياة أشبه بسلعة، في الجامعة يعلموننا كيف نكسب الكثير من المال، لكنهم لا يعلموننا كيف نتعمق بذواتنا ولا كيف نعيش كل لحظة حتى النهاية، لا يعلموننا كيف نفتح نوافذ وأبواب اللانهاية المطلة على الشمس. في الجامعة يحدثونك عن المال وأهميته وليس عن الزهور والورود، يحدثونك عن أهمية الوصول إلى مراكز سياسية أو إدارة رفيعة أو حتى رئيس وزراء مثلاً، أو رئيس جمهورية، ولا يحدثونك عن أهمية أن تصبح شاعراً أو رساماً رغم ما يعلموننا وما يحدثوننا عنه، نخشى أن نخسر أنفسنا فنحاول تغذية الأنا بألف ألف وسيلة، إننا نغلق النوافذ والأبواب المطلة على الشمس والفجر والنجوم وعلى الرياح والمطر والأشجار وعلى الحب والجمال وعلى كل ما يوصلنا إلى الحقيقة، من هنا لا يولد الشعراء الكبار، بل يولد الشعراء الصغار حتى لو تقدموا بالعمر يظلون صغاراً.. وفي هذا الوطن الجميل ما أكثر الشعراء الصغار. |
|