تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إلى من يهمه الأمر .. إلى أنطاكية

ثقافـــــــة
السبت 24-9-2011
يوسف المحمود

أنطاكية، أول ماكنا نراها، من لفة كوع إلى لفة كوع, مرة قدامنا، ومرة خلفنا نخاف أن يسقط الباص في سهل العمق الفسيح، صاعدين إلى ممر بيلان، كما مرت به عساكر إبراهيم باشا، نقدر أن لن نقف أو ننفذ إلى القسطنطينية- مصحة الرجل المريض!

أنطاكية، إلى ماصعدنا هذه المرة راجعين من ميناء الاسكندرونة، حيث أول ماسبقت إليه، عساكر ورثة الرجل المريض الأوروبية، من مرج عيون مرت بدمشق، حمص، حماة وقفت أو لم تقف في قلعة حلب، كمعلم من معالم سيف الدولة الحمداني تستبق النزول في ذلك الميناء الشمالي، على ما أنزلت من عساكر في ساحل طرطوس واللاذقية، لاحتلال اللواء بحسب أوفى وأشمل دراسة، قام بها صاحب كتاب، أعمدة الحكمة السبعة، جغرافية وديموغرافية، لورانس قبل أن يتولى قيادة الجيش العربي الفعلية، في ثورة الشريف حسين. مكان قيادة ولده فيصل الاسمية لذلك الجيش بحسب ماكان يسمع في الضيعة، عن عسكري، تطوع في الجيش الفرنسي فكان يذكر لأهله في مكاتيبه كما سمعت أبي. يذكر بحضور خطوبته لإحدى بنات قريته، سنتي 1937- 1938 يطمئنها، أنها ستسكن بين أهل وجيران لايفرق عليها شيء مما هي عليه في الضيعة!‏

ومما كان يذكره أبي أن أمهات وآباء من قرى مجاورة قد حضروا عند هذا العسكري، ربما بإخبار من أبنائهم يسألونه عن أحوالهم؟ أو إن كانوا أرسلوا لهم بشيء معه؟‏

ولكن والده هو، لمن يحضر لملاقاتها، إلى اللاذقية، أو طرطوس عام 1939 كما حضر لملاقاتها في محطة العكاري، قبالة تلكلخ شمالاً مع أخريات بأطفالهن انضم أباؤهم كضباط، في حلب، إلى الجيش السوري الوطني، مستبقين جلاء، سنة 1946!‏

أنطاكية، أول ماصعدنا من ميناء الاسكندرون في رحلة لمصححي أوراق امتحانات الثانوية العامة، من المحافظات الشرقية والشمالية، محافظة السويداء ودرعا جنوباً ومن كانوا من محافظة القنيطرة، ودمشق وريفها، في مركز اللاذقية كما سبق أن ذكرت!‏

أنطاكية، كما صرنا هذه المرة في ممر بيلان إلى اليد الشمال، نازلين إلى الميناء، وعلى اليد اليمين راجعين الممر، مفتوح بسعة لاتقدر للراكب من داخل الباص، إلا بالجمال الطبيعي إن كان في قرية أو شجر يتلامح من نوافذ الباص متتالياً، كما لو كان في سحر كوكبة الجوزاء خاصة، لايدري هي في شقة، في جانب من الأرض؟ أم هي في أزهى بروج الجوزاء تتفرج على أعجب بقاع الأرض، يحسد أهلها عليها، من الملائكة الحفظة هم هذه المرة ممن اصطفى قدماء العرب، البنات على البنين!.‏

وأنطاكية، على ما أخذت تتوالى نزولاً، من أربعة وثمانين كوعاً بعكس ماكانت في الصعود أنطاكية من فوقها سهل العمق مرة، كما لوكانت سمكة تقفز في وجه الراكب، داخل الباص من بحر الماء إلى حيث لايمكن أن يقدر إلا بالجمال في الهواء ومرة كما لو كان الباص أخذ يهوى من رأس كوع في مثل جحيم السومريين لايتحسس الراكب نفسه سالماً، إلا تحت ظلال الأشجار المثمرة تتشابك من البساتين فوق الطريق فلا تختلف عليه، إلا بظلال الدلب العالية الكثيفة تتخاطف في الحربيات على جداول المياه لايدري، هي الظلال في الماء المتدفق؟ أو الماء يتدفق في تلك الظلال حيث لاأذن حقاً سمعت، ولاعين تصدق نفسها، أنها حقاً رأت..!!‏

انطاكية ! أول ما رأيتها، قراءة في كتاب كما لو تبصر بالعينين، من تحت قامة زنوبيا- شاكية السلاح، تبلغ في صهوة جوادها، في اثر والي الروم. آخر ما يمكن أن يقف ذو أربع قوائم، في حافة رأس الجبل، من فوق أنطاكية جنوباً. تنظر، زنوبيا تنظر، من جانب مقام إبراهيم النجار، على اليد اليسار، نهر العاصي نازلاً، إلى خليج السويدية!‏

ومن فوق انطاكية، بسعة سهل الروج. زنوبيا تنظر، عساكر والي الروم مولية. لا تدري، أتصعد في السهل؟ أو نازلة إلى البحر. كيف تنجو؟ لو كان ممر بيلان نافذا، كما سلكناه، هذه المرة، إلى ميناء الاسكندرونة، أول مانزلت فيه عساكر فرنسا، متحولة من مرج عيون!‏

وهذه المرة، كما تظهر أنطاكية، من داخل الباص، راجعاً من ميناء الأسكندرونة في ممر بيلان. انطاكية من حول مقام ابراهيم النجار. تشاهد من علو 84 كوعاً، في ممر تتشابك فوقه الأشجار المثمرة من جانبي البساتين. تكاد تخفيه، حتى تدقق جداول المياه الغزيرة، من تحت ظلال أشجار الدلب العالية. لايدري أول. أوآخر الحربيات؟ أول الدنيا؟ أم نهايتها!‏

ذاك، أول ما رأيت انطاكية، بوقفة زنوبيا من فوقها، تطارد والي الروم وعساكره! بأول ما كنت أسمع، بقسم العاصي من فوق هضبة الهرمل، أن يزور مقام إبراهيم النجار، في أنطاكية، عائداً في البحر، بخليج السويدية. يرى من رأس البسيط، في اليوم الصحو،كما لمحناه، في رحلة، لمصححي أوراق الامتحانات العامة للشهادة الثانوية، في مركز اللاذقية، من المحافظات الشرقية، الشمالية، الجنوبية- درعا والسويداء، على ما تقدم، في زيارة للواء الاسكندرون!‏

وآخر ما كنت أسمعه، عن أنطاكية خاصة، إذ كنا كأولاد. نحضر الأعراس في القرى المجاورة. فقد سمعت عسكرياً. تطوع في الجيش الفرنسي. فكانت خدمته، في انطاكية. سمعته يرد على اللغط. كيف تذهب ابنة الضيعة غريبة، تعيش بعيدة في غير أهلها وجيرانها!‏

فكان يقول. أنتم في ضيعة هنا. كما لوكنتم في ضيعة هناك. وهم مكانكم هنا، ترون سيماء وجوهكم. تسمعون، ولكن بلهجة شمالية مخاطباتكم اليومية. ويتصرفون، كما تتصرفون في عاداتكم. وتمارسون تقاليدكم، في المواقيت والأعياد. وتقرؤون، من يقرأ منكم، أي كتاب، كل بمفرداتها ومعانيها. بوسائلها وغاياتها، حتى أواخر، سنة 1939، حيث انحسرت فرنسا، بذلك العسكري. بأطفاله وامرأته، إلى اللاذقية وطرطوس.....(سيلي)‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية