تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الناعورة

ســـــاخرة
الخميس 29-9-2011
معتصم دالاتي

لعل المتقدمين في السن في مدينة حمص يذكرون الناعورة التي كانت في الشارع الذي سمي باسمها. وهو الشارع الذي يطل عليه جامع الصديق.

وقد تم إنشاء هذه الناعورة على الساقية التي كانت تمر في هذا الشارع والهدف من إقامتها هو تزويد جامع النوري الكبير وسبيل الدالاتي بالماء.‏

ويحكى أن الناعورة تلك كان قد قام بتنفيذها رجل مهني اسمه عمر الدالاتي. ولم أستطع معرفة تاريخها، ولا في أي سنة تم الاستغناء عنها أوإغلاق الساقية التي تنتصب فوق تلك الناعورة الفريدة التي لم تكن تكل أو تمل ليل نهار من عملها الموكل إليها برفع المياه من الساقية وإرسالها إلى الأماكن المذكورة.‏

حين تم الانتهاء من صنع هذه الآلة الجميلة وتم تجريبها حيث قامت بعملها على أكمل وجه ممكن، وصارت فرجة في البلد، واستقبل المياه كل من سبيل الدالاتي، إضافة إلى أمكنة الوضوء في جامع النوري الكبير بفضل هذه الناعورة الطيبة، استدعى المجلس البلدي الحمصي، الشخص الذي قام بصنعها وتركيبها بناء على تكليف من ذاك المجلس.‏

مَثُلَ الرجل أمام المجلس الكريم، وبعد الكلمات اللائقة في مثل هذه المناسبة من الطرفين، وإقحام الوطن والبلد وسائر المواطنين في وجوب تأدية ما يمكن تأديته لهم من خدمات، دخل رئيس المجلس في الموضوع مخاطباً رجل الناعورة: إيه يا عمر. ماذا تريد؟وما هو المبلغ المطلوب؟ فذكر الرجل المبلغ الذي قدر أنه يستحقه عن عمله الذي قام به. فقال له أحد أعضاء المجلس من الحضور: يا عمر هذا كثير.. ألا تكارمنا؟ فهذه الناعورة لنا ولك ولسائر أهل المدينة والمسلمين قال عمر، الرجل الذي قام بصنع الناعورة:‏

على العين والراس. ولكن يا حضرات رئيس وأعضاء المجلس الأفاضل- قالها بما يشبه الخطبة المسرحية التي تلقى عادة في المناسبات- أرجوكم أولاً أن تسمعوا هذه القصة. قالوا: تفضل. فبدأ الرجل بالسرد.‏

التقى أحد الأغوات في الشارع برجل عرف عنه أنه يعمل في خدمة «الذوات» أي علية القوم. وكان هذا الخادم معروفاً ببساطته وتفانيه في خدمة السادة الذين يعمل عندهم. فسأله هذا الآغا: كيف حالك يا فلان؟ أجاب الفلان الذي هو الخادم: الحمد لله يا آغا. مستورة.‏

قال الآغا الذي أخذ يتباسط في الحديث مع الخادم: وأين تعمل الآن؟ قال: أعمل في خدمة مدحت آغا. قال الآغا بلطف: وماذا تحصل من مدحت آغا مقابل خدمتك له؟ قال الخادم: أخدمه مقابل طعامي وشرابي. قال الآغا بلطف أكبر: ما رأيك أن تترك مدحت آغا وتعمل عندي؟‏

فاستحى الخادم البسيط وقال: أمرك يا آغا، قال الآغا برقة ونعومة بالغتين: ألا تكارمني يا فلان؟ أجاب: أصوم لك يوم الخميس.‏

وهكذا تم الاتفاق بين الفريق الأول الممثل بالآغا. والفريق الثاني الممثل بالخادم فلان.‏

بعد فترة تكررت الحكاية نفسها مع آغا آخر التقى بالخادم إياه مصادفة في الطريق. فسأله: أين تعمل؟ أجاب الخادم: أعمل في خدمة مصطفى آغا. قال: وماذا يدفع لك مصطفى آغا؟ أجاب: شرابي وطعامي وأصوم له يوم الخميس. قال الآغا الجديد: هل تترك مصطفى آغا وتعمل في خدمتي؟ قال الخادم الطيب: أمرك يا آغا. قال الآغا: أو لا تكارمني؟ أجاب الخادم: أمرك يا سيدي. أصوم لك الخميس والاثنين من كل أسبوع. وأيضاً تم الاتفاق.‏

هنا صمت الراوي صاحب الناعورة، وساد الصمت في القاعة لبرهة قصيرة. ثم تابع الرجل بنفس اللهجة الخطابية المسرحية: وأنتم يا حضرات رئيس وأعضاء المجلس البلدي الموقر. ماذا تأمرون وكم عدد الأيام التي تودون أن أكارمكم بها، فأصومها لكم؟‏

ضحك جميع من في القاعة وأمر رئيس المجلس البلدي بإعطاء المبلغ المطلوب. وإعفائه من الصيام الذي كان يقدمه الخادم الطيب إكراماً لسادته الآغوات.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية