تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


د. جوزيـــف كلاس.. أحــــــبَّ الطـــــــب وعشــــــــــق الأدب .. بعــــــــــــد تسعين عاماً من العطاء.. قلب الطبيب الأديب يتوقف عن الدوران

ثقافـــــــة
السبت 1-10-2011
فادية مصارع

من القلب إلى القلب -تلك المضغة الصغيرة- كما وصفها الراحل د. جوزيف كلاس والتي اتسعت في صدره لكثيرين ممن عرفهم أصدقاء مرضى عاينهم فشفوا لابمبضعه فقط،

وإنما بابتسامته وروحه السمحة التي جلى فيها صدأ كثير من القلوب واستطاع أن يزيل كثيراً من الآلام بمسحة من يده الحانية وبكلماته التي كانت تصل من القلب إلى القلب، فالجراح الذي عرف كيف يصل إلى شغاف القلوب دخلها دون استئذان بعباراته التي كانت بلسماً لقرائه فهو لم يكن يلهو بالأدب، بل أحبه كما مهنته تماماً وترك فيه بصمات جميلة، فكان الإنسان والآسي عرف كيف يعزف على قيثارة القلب لحناً مختلفاً مخلفاً وراءه آثاراً ستبقى تخلده على مر الأجيال.‏

ومرت الأيام‏

عندما سألته عن قصته مع الكتابة أجاب: في البدء أعترف أن الكتابة ليست مهنتي وإنما كنت أقرأ ما تيسر لي من كتب وكنت أحب قراءة الأدب وحفظ الشعر، ومرت الأيام وفي مطلع الستينيات وبعد عودتي من فرنسا كان يؤلمني أن الناس هنا لا تقرأ فيما كنت أراهم في فرنسا يحملون الكتب معهم رجالاً ونساءً في الحدائق والحافلات والمقاهي.‏

ومن يومها قررت أن يكون الكتاب خير أنيس وجليس لي، ومنذ ذلك الحين أخذت أقرأ بشغف واحتفظ بما قرأت في مصنفات لاتزال في مكتبتي حتى الآن ومع مرور السنين تجمعت فيها ذخيرة مهمة من المعلومات في الطب واللغة والأدب والفلسفة والعلوم وإذ بي من حيث لا أدري أمام مجموعات لابد من تنسيقها وترتيبها لتصبح مع الزمن كتباً وهكذا كان..‏

وهنا لابد من ذكر لقائي مع د.شاكر مصطفى حيث كنا نحضر لتأسيس جمعية أصدقاء الكتاب بالاشتراك مع نخبة من أدبائنا وأديباتنا أذكر منهم الكاتبة الموهوبة نادية الغزي والأديبة الكبيرة كوليت خوري وغيرهما.‏

كنا واحداً وعشرين الرقم الذي أتفاءل به دائماً، انتهى الاجتماع وبقي د.شاكر لإتمام حديث كنا بدأناه سوياً، وقتها مد يده إلى أحد مصنفاتي الواحد والعشرين وأخذه وتصفحه باهتمام ثم قال لي: لماذا أنت تارك هذا المصنف؟ وبعدها جمعت ما قرأ في كتاب تحت عنوان «مسيرة الطب في الحضارات القديمة». قدم له د.شاكر مصطفى مقدمة كانت أجمل وأحلى ما قرأت، وهكذا ولد كتابي الأول، وفيه يقول د. شاكر مصطفى: «أوغل ما شئت من هذا الكتاب حيث شئت فإنك واقع منه على طرائف ندر أن جمعت في تاريخ التطبيب والشفاء».‏

وقد غدا ذاك الكتاب أحد المراجع التي أغنت المكتبة العربية ووجد فيه الباحثون والمثقفون والأطباء وطلاب الطب وطلاب العلوم عامة الكثير من الفائدة.‏

أول التعارف‏

ماسبق هو بعض مما حدثني عنه د.جوزيف كلاس أما أول التعارف فكان في الهيئة العامة للكتاب حيث كان يعكف المرحوم على تأليف كتاب بمناسبة إعلان دمشق عاصمة للثقافة العربية، حينها وعدني عند الانتهاء من تأليفه أنه سيهديني نسخة منه وقد وفى بوعده.‏

والكتاب هو بعنوان «دمشق الفيحاء» أرض الرسل والأنبياء، موطن العلم والعلماء و واحة الشعر والشعراء.‏

وكان -رحمه الله- كلما أنهى كتاباً يتصل بي ويقدم لي نسخة منه وكنت بدوري دائماً أطمئن على صحته وهو الذي تحسبه بلغ من العمر عتياً لكن الطبيب عرف كيف يداوي الزمن ويحتال عليه ويقهره بحيويته ونشاطه وإصراره على الاستمرار في الكتابة والتأليف.‏

أما كتابه الثاني فكان بعنوان «القلب بين الطبيب والأديب» وقد نال إعجاب د.شاكر مصطفى الصديق أيضاً وقدم له ببلاغة كبيرة.‏

وفيه يقصّ علينا الكثير الكثير من قصص القلب ولايزعم أنه تمكن من الإحاطة بها، ذلك لأن عالم القلب فسيح الأرجاء، واسع الآفاق يرى فيه المؤمنون وعاء للعقل والضمير ويرى فيه العلماء الآلة التي تستمر بها الحياة ويرى فيه الأدباء والشعراء القيثارة التي تزين بأنغامها أناشيد الحب وذاك هو ما رآه الطبيب الأديب.‏

وحدثني عن كتابه الثالث: «أناشيد من الفردوس المفقود» الذي أتيح له أن يقرأ نصوصه الصديق المفكر -والكلام للمرحوم كلاس- والفيلسوف العربي د. أحمد برقاوي وعنه قال: ما إن تقع عيناك على هذا العنوان حتى تشعر بهزة في الوجدان وتجد نفسك في حال الوعي التراجيدي.‏

«الأندلس صدى أنشودة صدحت بها العرب قروناً وها نحن نستعيدها اليوم على نغم ناي حزين إنها التراجيديا».‏

أما الكتاب الرابع: «أعلام الفكر الأندلسي» وقد ألفه توافقاً مع كتابه السابق ورصد فيه أخبار بعض أعلام الفكر الأندلسي وفضائلهم وإبداعاتهم القيمة في ميادين الثقافة والعلم والحكمة والآداب والفنون.‏

أما الخامس فكان الحياة السياسية في الوطن العربي وفيه يحيط بأحداث ثلاثة عشر قرناً من حياة أمة لعبت على مسرح الحضارة دوراً مهماً وكبيراً.‏

رحم الله الطبيب الأديب الذي أعطى من العلم الكثير ومن الأدب فجمع المجد من أطرافه، وإن كنت قد قصرت في الفترة الأخيرة في السؤال عن أحواله فربما تسرقنا المشاغل والزمن فننسى ولاعذر إلا أن أقدم العزاء بخجل لزوجته التي كان يحلو له أن يناديها دائماً برفيقة الدرب ورفيقة العمر عائدة، وإلى زهرة عمره وحياته ولديه عيسى وأمير وإلى الوطن الذي فقد أحد أعلامه الذين أحبوه بكل نبضة قلب.‏

طبيب أديب‏

في أحد حواراته مع مجلة مرايا المدينة آذار 1994 سئل د.كلاس: هل يقتل الحب صاحبه؟ فأجاب: نعم قد يقتل الحب صاحبه ودليله قول ليلى العامرية:‏

ويقتلنا العشق والحاضرات‏

يقمن من العشق في عافية‏

ويوضح كيف يقتل العشق صاحبه بأمثلة من كتاب «مصارع العشاق» لأبي محمد القارئ وهو كتاب مهم نجد فيه روايات كثيرة عن كل ما يتعلق بالعشاق الذين صرعهم الحب على أنواعهم.‏

وعن رأيه في الحب يقول:‏

الحب هو القدرة الشافية الأعظم في هذا الكون، وكما أن القلب بحاجة للأوكسجين كذلك الروح بحاجة للحب.‏

*** ***‏

قالوا فيه‏

-د. أسعد صقر: إن د. كلاس إذ يتصدى للكتابة التاريخية لا يلبي نداء المؤرخ بل هو يلبي نداءين لا يكادان ينفصلان أولهما: نداء الأديب الكامن في أعماقه إذ على الرغم من مهنته كطبيب متخصص في أمراض القلب وتميزه الواضح في ممارسة المهنة فإن نزعته الجمالية وثقافته الموسوعية وتذوقه للشعر والأدب تترك لجليسه انطباعاً بغلبة شخصية الأديب عما سواها.‏

أما النداء الثاني: فهو نداء جيله، فالدكتور كلاس ينتمي إلى جيل تفتح وعيه السياسي والفكري في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين ومن حسن طالع كوكبة متألقة من الشبان السوريين أن أتيحت لهم فرصة الدراسة والتخصص في فرنسا ثم العودة إلى ربوع الوطن بعد أن نهلوا من ثقافة الغرب واطلعوا على أنماط الحياة في المجتمع الفرنسي الذي كان في تلك الأيام واحة للفكر والثقافة والفن.‏

- عبد الرحمن الحلبي: كيف أسميه مؤرخاً وهو الطبيب الذي لم يبرح في دراسته الأكاديمية، ذلك العضو الذي إن توقف عن الحركة توقف صاحبه عن الحياة؟‏

الجواب: هو أن د. كلاس الذي بلغ السابعة والثمانين من العمر يعطي المكتبة العربية الآن كتاباً بعنوان «الحياة السياسية في الوطن العربي» على مدى ثلاثة عشر قرناً.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية