|
شؤون سياسية إحدى أفقر خمس دول محشورة في لسان يربط أميركا الشمالية بالجنوبية، وإحدى أفقر دول العالم قاطبة حيث يعيش تحت خط الفقر فيها أكثر من 70 ٪ من السكان البالغ عددهم نحو سبعة ملايين نسمة، وهي أيضاً إحدى الدول التي تحرص الولايات المتحدة منذ عقود على الاحتفاظ بقاعدة عسكرية فيها، وحرصت في السابق، وحتى عهد قريب، على وضع اقتصادها أمانة في عنق عدد قليل من العائلات المحلية والشركات الأجنبية ينهب بحرية مطلقة. كل ذلك لا يبرر أن تتصدر أنباء هندوراس عناوين الصحف واهتمامات وزارات الخارجية، فكل ما جاء في السطور السابقة وأكثر منه ينطبق بدرجة أو أخرى على دول كثيرة في القارة الأميركية الجنوبية، ففي معظم أنحاء أميركا اللاتينية الفقر مدقع وراسخ وتجري تقوية مظاهره ليبقى الفقراء داخل علب الصفيح لا يخرجون منها إلى الحضارة والمدن الراقية وليبقى عمال المناجم على حد الكفاف والإنكسار لا يطالبون بتحسين حياتهم المعاشية، يبقى السكان الأصليون المنحدرون من أصول هندية نقية أو مخلوطة بدماء اسبانية وبرتغالية وإفريقية، يبقون في قراهم التاريخية فوق التلال والجبال محرومين من حقوق التحضر والتعليم والمشاركة. الجديد الوحيد الذي حدث وجعل هندوراس محط اهتمام إقليمي ثم عالمي هو أن جيشاً من جيوش أمريكا اللاتينية عاد ليتدخل في السياسة بعد سنوات كاد العالم يصدق أن مسيرة تولي العسكريين الحكم قد توقفت وصارت تاريخاً. منذ سنوات قليلة وصل إلى السلطة في هندوراس زعيم سياسي تدعمه النقابات وجموع الفلاحين والسكان الأصليون وأعلن انضمامه إلى تحالف البديل البوليفاري الذي يقوده الزعيم هوغو تشافيز رئيس جمهورية فنزويلا. هؤلاء جمعتهم الرغبة في تخليص بلادهم من سياسات ميلتون فريدمان في الاقتصاد وكراهيتهم للرئيس جورج بوش وطاقمه من المحافظين الجدد وسياسات الإدارة الأميركية الخارجية. كان واضحاً على امتداد السنوات العشرين الأخيرة أن التيار الساعي إلى الانتقال من الاستبداد والإقطاع المالي إلى الديمقراطية الاجتماعية في القارة الجنوبية متصاعداً ويكتسب زخماً ودعماً شعبيين، ثم ظهر واضحاً أن وصول باراك أوباما إلى منصب الرئاسة في الولايات المتحدة يؤشر إلى مستقبل أفضل للعلاقات بين الولايات المتحدة ودول أميركا اللاتينية، إذ حظي أوباما من اللحظة الأولى بترحيب قوي في الأوساط الشعبية في القارة الجنوبية. كان الأمل، وما زال، أن خطا أميركا الجنوبية نحو التحرر واستعادة الحقوق والمكانة ستزداد ووتتسارع وجاء الدليل كاشفاً عندما استطاعت القارة الجنوبية إعادة كوبا إلى مقعدها في منظمة الوحدة الأميركية بعد خمسين عاماً من المقاطعة والحصار، وجاء دليل آخر لم يكن أقل أهمية عندما تبادل أوباما وتشافيز الإعراب عن الرغبة في فتح صفحة جديدة في العلاقات بين حكومة الولايات المتحدة وحكومة فنزويلا التي تعتبر نفسها الممثل للثورة الاجتماعية الجديدة في أميركا اللاتينية. وفجأة يقع انقلاب هندوراس ضد رئيس جمهورية منتخب ديمقراطياً ويحظى بتأييد قطاعات واسعة من الشعب، وفور شيوع النبأ حل الإرتباك في كل مكان، ليس فقط في واشنطن بل وفي عواصم أوروبية ولاتينية عديدة وتناثرت الأسئلة كيف يمكن أن يتحرك الجيش ويدخل عاصمة ويصل إلى غرفة نوم رئيس الدولة ويختطفه وهو بملابس النوم ويضعه في طائرة ترحل به إلى كوستاريكا؟ كيف يمكن أن يحدث هذا كله وعلى حدود العاصمة يقف خمسمئة جندي أميركي على أهبة الاستعداد لحماية واستقرار حكومات أميركا الوسطى ضد أي طارئ. وفي هذه الحالة تحديداً كان خبر الإعداد للانقلاب قد وصل قبل أيام إلى واشنطن التي وبحسب تصريحات رسمية طالبت بالتريث والتروي. هل حقاً أوباما غاضب من تصرفات الجيش في هندوراس؟ أم إن هذا الحادث يؤكد ما يتردد من أن القوات المسلحة الأميركية لا تزال تتصرف في مواقع كثيرة خارج الولايات المتحدة بإدارة تبدو مستقلة عن الإدارة السياسية في البيت الأبيض، وأن هناك مايشبه الاتفاق الضمني وغير المعلن على أن يمنح أوباما للمؤسسة العسكرية الأميركية وقتاً تنهي فيه متعلقاتها (الامبراطورية). ربما كان انشغال واشنطن وعواصم القرار في أوروبا بالتدخل وتأزيم الأوضاع الداخلية في ايران قد أوحى لليمين المتطرف وبعض قادة العسكر في أميركا الجنوبية بالتسلل حسب تعبير حكام كرة القدم لتسجل هدفاً طال انتظاره. |
|