|
معاً على الطريق وكيف لا يكون كذلك وما كان هنالك لا صحف، ولا بريد، ولا اتصالات سلكية أو لاسلكية وصولاً إلى الفضائيات، والإذاعات، وما يمكن أن ينشره الهواء من أمواج صوتية وضوئية الخ...، فقد كانت القصيدة بمثابة بث إعلامي كامل لمن يريد أن يفهم الأحوال السياسية والاجتماعية، وحتى الفضائح وأخبار النوادر.. لكن الشعر الآن قديمه وحديثه لم يعد كذلك، والفصاحة العربية وأسرار النبوغ الشعري لم تعد عائمة على السطح بل هي في أغوار سحيقة أخذت تتمرد عليها حتى حطمت عمود الشعر أو أوشكت.. إلا أن الذي يذهلنا في هذا الزمن الذي تسيل فيه الدماء في شوارع المدن العربية أن يأتي الموسرون (ومنهم شعراء بالطبع) ليغدقوا الأموال على الشعر في تصنيفه، وموضوعاته، وكتبه فاخرة الطبع لكي توزع في الوطن العربي كله، وهناك احتفالات وجوائز سخية لمن يساهم في هذا العمل الجبار الذي يُرفع لكل منه نصب تذكاري مضاء في الساحات العامة. قد نقبل جزئياً فكرة رصد الشعر الحديث وخاصة الملاحم البطولية التي أسهم فيها الشعراء.. لكننا نقف سداً منيعاً أمام الشعر القديم الذي يحتاج من الجامعي والأكاديمي أحياناً أن يعود إلى المعجم ليفسر كلمة أو يفهم أصل تعبير ما. وما دامت اللغة العربية نفسها في تدهور مستمر فماذا ينفعنا هذا الكرم الحاتمي الذي حدّثوا عنه بأن صاحبه (حاتم الطائي) ذبح حصانه الوحيد من أجل أن يمتدحه العرب بالكرم، وذهبت مثلاً. ألا يمكن بل هو ممكن أن تصرف هذه الأموال على الجوعى والمحتاجين والمرضى وعلى من طرحتهم الانتفاضات، والحروب، والثورات في زوايا الإهمال بحيث أصبحوا لا يشعر بهم أحد. نحن نناشد أثرياء العرب وأولي الأمر والنهي فيها أن يضعوا سلم أولويات لإنقاذ الوطن العربي كله من آثار الدمار والخراب الذي يلحق بنا.. وأن يوجهوا البوصلة نحو أولويات هي أجدر وأكثر إلحاحاً من جمع الشعر العربي القديم خاصة.. ألا تحتاجنا المستشفيات، والمدارس التي لم تنشأ بعد، وذوي الاحتياجات الخاصة والعامة؟.. ألا يمكن أن نندرج في هذا الزمن القاسي الذي لا يعترف إلا بالعلم والمادة فنجعل العلم في سلم الأولويات والمادة هي الركيزة الأساسية للتقدم والحضارة؟.. هل ننسى أن الشعوب التي نهضت إنما نهضت بدفع من الركب العالمي المذهل الذي يمكن أن نتفاءل بإدراكه في قرن أو أكثر؟.. وما بالنا بهذا العلم الذي اخترق أغوار الأرض وفضاء السماوات لكي يتعرف إلى الكون بأسره لا إلى الكوكب الأزرق الذي نعيش فيه وهو الأرض.. وما بالنا أيضاً ونحن نتناحر على قتال بعضنا بعضاً من المحيط إلى الخليج في حروب خفية أو علنية؟ والى ماذا يوصلنا القرن العشرون الذي احتسبناه بداية للنهوض العربي ناسين أو متناسين التطور الطبيعي لحياة البشر على الأرض؟ فما نحن فيه ليس تقدماً وإنما خطوات بطيئة حتى في التطور الطبيعي نفسه. وإذا كنا انتقلنا من الخيام والواحات إلى الفنادق والمنتجعات، وحتى مدن الرفاهية فهذا لا يعني أننا وضعنا أرجلنا على سلم التقدم.. فالتقدم هو بناء الإنسان.. وقد قال أحد رؤساء البلاد العربية مرة مخاطباً شعبه: أنا لم أترك لكم ثروات بل مشاريع ثورات.. وجهدت في أن أبني الإنسان لأنه هو الأقدر على بناء الأوطان. ولا نحسبن أن الأمية تأتي في ذيل مشاريعنا بل هي الرأس والقمة فمن لا يستطيع فك الحرف، أو كتابة الرقم لا يمكن له أن يستعمل التكنولوجيا المعاصرة.. وها هي التكنولوجيا تغرق أسواقنا وخاصة في الآلة الحربية التي أصبحت باب جحيم لمن أراد أن يظفر وأن يملك قبل أن يحكم.. وها هي السبائك الذهبية المكدسة في قصور الأثرياء سواء أكانوا حكاماً أم محكومين أكبر تعبير عن ذلك. وأقول في هذه الزاوية الصغيرة إنه يجب أن نتخلص من أشباح الجاهلية التي قال شاعرها يوماً: إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا وقبلها قال في القصيدة نفسها: أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا بأنّا نورد الرايات بيضاً ونصدرهن حمراً قد رُوينا نحن نتطلع إلى رايات بيضاء مرفوعة لا إلى رايات منكسة.. أما المتنبي العظيم فقد رصد في شعره فيما رصد ما مرت به بلادنا من تطورات وتفجرات مزقتها قطعة قطعة حتى قال: تمرستُ بالآفات حتى تركتها تقول أمات الموت أم ذُعر الذعر |
|