تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الراتب الأول

ساخرة
الخميس 13-10-2011
معتصم دالاتي

كان والدي رحمه الله يعمل في خراطة الخشب في دكانه في شارع يسمى سوق الكندرجية وهو الشارع الذي يتفرع عن أبي العوف ويفضي إلى سوق الحشيش الشهير في مدينة حمص.

ولا أدري سبب إعطائه هذا الاسم فهو سوق كبير لبائعي الخضار والفواكه، ولعل الحماصنة كانوا يعتبرون الخضار حشائش أو حشيشاً مهما كان نوعها.‏

في أيام العطلة الصيفية للمدارس والتي تستمر ثلاثة أشهر كان يتحتم علي أن أقضي نهاري عند والدي في الدكان لكي يحميني من اللعب في الحارة مع رفاق السوء، أقصد أولاد الحارة من الجيران وكان النهار في الدكان يمر طويلاً ومملاً ورتيباً لطفل لا عمل له سوى الجلوس على كرسي القش الوطئ أو على طراحة صغيرة ممددة على الأرض.‏

وكان علي أن أكون صامتاً وهادئاً كل الوقت، فهو مشغول بعمله وليس في الدكان من أتساير أو ألعب معه، وعلي أيضاً ألا ألعب بأدوات الشغل درءاً للأذى.‏

وكانت بعض المشاوير التي يكلفني بها، ومنها تعبئة الآنية الفخارية (الشربة) من حنفية السبيل التابع لمسجد القاسمي المجاور لنا إضافة إلى الإشراف على الدكان كناطور لها إذا كان لديه مشوار يقضيه فيعيد على مسامعي مجموعة التحذيرات والوصايا التي علي استيعابها والتقيد بها فترة غيابه.‏

تلك الحالات كانت بالنسبة إلي هي فترات التنفس التي يستمتع بها السجين.‏

كانت دكانة رامز صانع وبائع السكاكر تقابل دكانة والدي وكانت تعج بالحركة ففيها ثلاثة أو أربعة أولاد يعملون فيها. وهم يتسامرون ويمرحون.‏

وكنت أنظر إليهم بحسرة شديدة. وكثيراً ما كانت تعلو ضحكاتهم دون أن يعبس في وجههم أو يؤنبهم معلمهم رامز صاحب تلك الدكان، بل غالباً ما كان يشاطرهم تلك الضحكات فهو شاب في مقتبل العمر يعرف المرح والضحك وليس وقوراً وجاداً كوالدي وكثيراً ما كنت أتمنى لو أنني واحد من تلك المجموعة المسلية الممتعة مادامت الحارة والفلتان بعيدي المنال.‏

لم أعد أذكر إن كان والدي قد وافق بسهولة على رغبتي التي تجرأت وفاتحته بها وأنا أرتعد من الخوف والوجل.‏

لكنني أذكر أنه طلب من جاره رامز أن يضمني إلى ورشة عمله تلك.‏

وأخبرني رحمه الله بموعد عملي الجديد في دكان رامز بداية الأسبوع القادم مع صباح يوم السبت.‏

ولم ينس تزويدي بالنصائح في أن أكون مؤدباً ونشيطاً في سلوكي وعملي، فأنا أمام بصره وتحت مراقبته وعلى مرمى نظرة من دكانه.‏

كنا نصنع مع رامز السكاكر والشوكولاته والعلكة ثم نلفها بورق السلوفان الملون كل حسب نوعيته وغالباً ما كنا نجلس على طراحة على الأرض للقيام بهذا العمل.‏

كما أننا نحضر أيضاً مجموعة (السحبة) وهذه تصنع من دفاتر المسودة التي يشتريها من التلاميذ إذ نلفها بشكل مخروطي ونضع في كل واحدة منها قطعة من العلكة أو حبة شوكولاته، إضافة إلى الهدية التي إما ممحاة أما نصف قلم رصاص أم بالون صغير نسميه (نفيخة).‏

ثم يحشى هذا الشكل المخروطي بالورق حتى لا ينكشف ما بداخله عن طريق اللمس.‏

وأخيراً يتم تزيين فوهة هذا الشكل بشراشيب من ورق السلوفان الملون.‏

شارف الأسبوع الأول على نهايته وأنا في دكان رامز.‏

وجاء يوم الخميس وفي نهاية هذا اليوم فتح رامز الجرار الخشبي الذي يودع فيه النقود وقال لي: افتح يدك. فرنك، اثنين، ثلاثة، أربعة إلى أن وصل إلى الرقم ثمانية.‏

وكانت تلك الفرنكات الثمانية التي يساوي كل واحد منها خمسة قروش هي (جمعيتي) أي أجري عن الجمعة أو الأسبوع الذي قضيته في العمل.‏

وقد وعدني بزيادة هذا المبلغ مستقبلاً إذا تحسن أدائي في العمل.‏

حملت تلك الفرنكات الثمانية متجهاً إلى البيت وكان عمري آنذاك دون السنوات العشر.‏

وحتى الآن لا أذكر أنني قبضت مبلغاً من المال أفرحني وأدخل السرور إلى قلبي كتلك الفرنكات الثمانية التي قبضتها من رامز آنذاك.‏

وإذا لجأت إلى النسبة والتناسب والمشاعر والأحاسيس، فإنني أستطيع أن أقول دون تردد إن هذا المبلغ هو أكبر مبلغ قبضته في حياتي من ذاك التاريخ وحتى الآن.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية