|
شؤون سياسية الكثير ، الكثير، سيقولون، على صعيد الاستراتيجيات العليا: إن آمال الولايات المتحدة بإيجاد نظام عالمي أحادي جديد سقطت بالضربة القاضية، فلاهي تمكنت من استيلاد هذا النظام، ولا القوى الدولية القديمة والصاعدة اقتنعت بأنها مؤهلة لقيادة هذا النظام بعد تعثرها العسكري والأمني والسياسي في العراق. وهكذا، وبدل أن يشق النظام الجديد طريقه الى الوجود منذ حرب الكويت وحتى غزو العراق، حلت مكانه فوضى لاتزيدها الأزمة الاقتصادية العاتية إلا تفاقماً. في المجال الإقليمي، سيسجل مؤرخو المستقبل أن غزو العراق، الذي كان يفترض أن يكون منصة الانطلاق لإقامة نظام إقليمي جديد بحراسة قوات أميركية تحط الرحال في خاتمة المطاف في دمشق وطهران، انقلب على نفسه وبات هم واشنطن الرئيس حماية قواتها ونفوذها في بلاد الرافدين. أما فيما يتعلق بالعراق نفسه، فنتائج المغامرة الأميركية لن تحتاج سوى الى استخدام تعبير «مروع» لوصفها: 100 ألف قتيل ونصف مليون جريح وتشريد 3ملايين عراقي و4 آلاف قتيل و30 ألف جريح عسكري أميركي ، وتدمير كل بنى مؤسسات الدولة العراقية ، واشعال لهيب الصراعات المذهبية والعرقية التي تنسف الآن ركائز المجتمع بعد الإجهاز على مرتكزات الدولة. هل يعني كل ذلك أنه لم يكن ثمة مستفيد من «الأشغال الشاقة »الأميركية طيلة 21 عاماً (1990-2011)؟ بلى ، هناك طرف هو المستفيد الأكبر: «إسرائيل» التي يقال ، وعلى نطاق واسع: إن حرب تدمير العراق شنت من أجلها بقدر ما شنت من أجل النفط، وهذا ما دفع الكثيرين ، وعن حق، الى إقامة رابط تاريخي مكين بين الخطة الأميركية - «الاسرائيلية» المشتركة لتوجيه الضربة القاصمة الى مشروع عبد الناصر التنموي والتحديثي عبر حرب 1967وبين حرب 2003 التي نسفت أسس الدولة العراقية. ففي كلا الحالين، كانت الرسالة واضحة، ممنوع بروز أي قوة إقليمية عربية قد تشكل تهديداً أو حتى منافسة للامبراطورية «الإسرائيلية» الصغيرة في المشرق العربي. ثم هناك مستفيد آخر: «الكارتلات» النفظية والعسكرية- الصناعية الاميركية، التي كانت ، وستواصل ، الإفادة القصوى من احتلال العراق. وهذا سيتأكد حتى يتبين الأشهر المقبلة-أي نهاية هذا العام- وهو الموعد الافتراضي لانسحاب ماتبقى من القوات الأميركية، أن القوات الأميركية ستبقى، وأن الولايات المتحدة ستقاتل حتى الرمق الأخير للاحتفاظ بسيطرتها على العراق. فالتجارب السياسية السابقة تبين أن الادارة الأميركية، ومنذ نهاية الحرب الكونية الثانية، دأبت على اعتماد سياسة دفاعية تقضي بنشر قواتها في أراضي الدول التي تمثل بالنسبة لها ضرورة استراتيجية، حيث تشير خريطة الانتشار العسكري الأميركي الى أن أغلبية الدول التي تتمركز فيها القوات الأميركية، كانت ومازالت تشكل تحدياً اقتصادياً ً بالنسبة لمستقبل المصالح الأميركية في العالم، وبالتالي، فإنه من غير المعقول وفقاً للعقيدة السياسية والدفاعية للبيت الأبيض، أن تغامر الولايات المتحدة بسحب كل جنودها من بلد شهدت قراه ومدنه مقتل الآلاف من الجنود الأميركيين وأنفقت فيه المليارات من الدولارات من أجل استكمال عملية احتلاله وإخضاعه، وذلك من منطلق أنها مازالت تنتظر أن تسمح الأوضاع الداخلية في العراق بقطف المزيد من ثمار احتلالها لهذا البلد الغني بموارده النفطية وبقدراته الفكرية والحضارية الهائلة. مؤرخو المستقبل لن يتوقفوا عند هذه الخلاصات الاستراتيجية والدولية و الاقليمية، بل سيرنون ببصرهم أيضاً الى المحطات الثقافية والإنسانية . وهنا سيكتشفون أن الولايات المتحدة باعت جلد 300 مليون عربي ومليار ونصف مليار مسلم لـ 3 ملايين «اسرائيلي» ولحفنة من أصحاب المصالح النفطية والصناعات الحربية، كما أنها ألحقت أفدح الأضرار بالمشروع الديمقراطي والتحديثي العربي، بعد أن لوثت هذا المشروع بدم الضحايا المدنيين، وبلعنة العصبيات الطائفية والمذهبية، وبموبقات الفساد والانحلال الخلقي. بيد أن مؤرخينا ربما يرون مالانستطيع نحن رؤيته الآن: الثمن الباهظ الذي ستدفعه الولايات المتحدة جراء تخبط سياساتها على هذا النحو الكارثي في العالمين العربي والإسلامي. وهو ثمن سيكون، وفق كل المقاييس ، باهظاً على الأقل بالنسبة الى مستقبل الزعامة الأميركية في العالم، باهظاً للغاية في الواقع. |
|