|
فضائيات ربما نتيجة حسابات خاطئة أو إغواءات زائفة أو أحلام كاذبة أو ظروف قاهرة. فلاح هو في الحقيقة خامة ممتازة لموسيقي, أو بائع متجول بكفاءة مدير عام, أو سياسي بموهبة طبال, أو ربة منزل بقدرات وزير مالية, مهندس يتمنى لو كان طبيباً, ومحام يرغب العمل في الصحافة أكثر.. البعض من هؤلاء يستسلم لقدره, والبعض يتمرد محاولاً تصويب المسيرة, والبعض يحاول التوفيق ويجاهد في الجمع بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون.. بين الواقع المفروض والواقع المرغوب.. من السهل أن نكتشف أن الدكتور طالب عمران ينتمي وبجدارة إلى الفريق الثالث, فكل شيء يوحي بأن الرجل يهوى الأدب ويميل إلى الخيال, وإذا ما خير الآن فهو على الأرجح سيختار أن يكون أديباً أولاً وأخيراً, وبالتحديد أديباً أخلاقياً يكتب قصصاً من ذلك النوع الذي انقرض تقريباً, وما بقي منه صار يسوق تحت يافطة (أدب اليافعين) أو (أدب الناشئة), ذلك الأدب الذي يهتم بالوعظ وتقديم الدروس الأخلاقية وتقويم السلوك, وتنمية النوازع الخيرة.. ولكن لسبب ما, فإن عمران سار في طريق آخر, واختص في واحد من العلوم البحتة, وللأمانة يبدو أنه برع في ذلك إذ صار أستاذاً جامعياً له مريدوه, ومحاضراً مثابراً وحظي جراء ذلك بصفحات في صحف, وبسلسلة من البرامج العلمية سواء في الإذاعة أو التلفزيون, غير أن سوسة الأدب ما فتئت أن أطلت برأسها, وتحت وطأة إلحاحها, صار عمران مضطراً إلى التوفيق في برامجه وصفحاته بين الاثنتين: الحرفة والهواية, ولا نعرف إلى أي مدى نجح في ذلك, ولكن المؤكد أن الهواية راحت تطغى شيئاً فشيئاً, حتى احتلت المساحة كلها, وهكذا لم يبق من العلم في برامج عمران العلمية سوى العنوان فقط.. في (آفاق علمية) البرنامج الذي يعده د.طالب عمران وتبثه القناة الأولى عصر كل اثنين, يتبدى هذا الأمر بوضوح فمنذ سنوات, والبرنامج يتمحور حول أربعة أو خمسة موضوعات تنتمي إلى الأدب الوعظي أكثر بكثير من انتمائها إلى العلم, وحتى إذا كانت العناوين علمية فإن معالجتها تتم بالطريقة نفسها للوعظ.. تتألف الحلقة عادة من فقرتين: الأولى تحت عنوان (ظواهر غامضة) يعدنا عمران بأن (العلم يفسرها), وفيها يتم استعراض هذه الظواهر نفسها تقريباً في كل مرة: الحلم عند الإنسان النائم, هجرة سمك السلمون عبر البحار, آلية إحساس الصراصير بالحرارة, التخاطر بين البشر, عمر الجبال.. كل ذلك دفعة واحدة وبدون روابط أو بروابط هشة, وتكون المفاجأة أن العلم لا يفسر أي شيء لأن الدكتور يستعجل الوصول إلى الرسالة والمغزى (أن الإنسان ومهما علم يبقى جاهلاً, وهذا ما يجب أن يدفعه إلى التخلي عن غروره وتصويب سلوكه الاجتماعي, والكف عن استغلال أخيه الإنسان, والتآخي مع الطبيعة.. والتحلي بالأخلاق الحميدة). بل إنه وصل في حلقة سابقة وعبر ظواهر مماثلة إلى الاستنتاج أن الشر يقصر الأعمار, والخير يطيلها..!! في الواقع الرسالة نبيلة ولكن ما علاقتها بكل هذه الظواهر? إذا ما شاهد الإنسان جبال الجليد وهي تتفتت, أو هجرة سمك السلمون أو صرصوراً يصدر أصواتاً وكأنه يعزف.. كيف يقوده كل ذلك إلى أن يصبح خيراً ذا سلوك قويم..? ألا يستطيع أحدنا أن يكون شريراً وهو يراقب البراكين وهي تنفجر أو النحل وهو يرتشف الرحيق..? بهذا يطيح الدكتور بأولى بدهيات العلم: السببية إذ يغفل الربط بين المقدمات والنتائج.. في برامج دينية وإرشادية يغدو هذا طبيعياً, يستعرض البرنامج (خلق الله مثلاً) مشاهد من البحار والجبال والأدغال ليلفت انتباهنا إلى إعجاز الخلق ومن ثم يدعونا إلى الاتعاظ وأخذ العبر.. ولكن في برنامج علمي يبدو هذا غير مبرر, بل وغريباً لا سيما إذا كان هو الشيء الوحيد الذي يفعله البرنامج, الهدف الوعظي والمعزى النبيل والرسالة السامية تنسي الدكتور عمران الغوص في أي شرح أو تحليل أو تفسير علمي, وكأنما هدف العلم هو أن يقول لنا فقط: نحن جهلة وعلينا أن نعرف ذلك ونتعظ..! نحن نعلم قليلاً.. هذا صحيح, ولكن لمَ العلم إذاً..? لماذا الإصرار على إدانة الإنسان بما لا يعلم عوضاً عن اطلاعنا على ما يعلم? لمَ كل هذه الدروشة..? أم أن رسالة الوكيل الحصري للبرامج العلمية تتمحور حول إقناعنا بتفاهة العلم وحسب..? لا اعتراض من حيث المبدأ على وجود رسالة سامية وهدف أخلاقي وراء كل شيء ولكن في برنامج علمي يفضل أن يتم الوصول إلى هذه الرسالة وهذا الهدف بوسائل علمية, وبطرق غير مباشرة تحترم عقول المشاهدين وتمنحهم شيئاً من الحرية في الاستنتاج, وإلا ما الفرق بين العلم والوعظ..? ألا يستطيع شيخ كتاب من العصور الوسطى أن يصل إلى ما وصل إليه آفاق علمية..? أما الميل إلى الخيال, فقد أشبعه د.عمران بالجنوح إلى الخيال العلمي, وفي الحقيقة سرعان ما تبخر العلم من هذا الخيال ليبقى خيالاً لا علمياً.. لنتذكر فقط قصص عمران الإذاعية: شبح قتيلة على طريق درعا يلاحق العابرين, وشجرة مباركة يستعصي اقتلاعها على أحدث وأضخم الآليات.. |
|