تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ذكريات ليل الشعراء...(رفيق فاخوري -رضا صافي-محي الدين الدرويش)

ثقافة
الأثنين 20/10/2008
ممدوح السكاف

.....في هذا المساء, في التاسعة منه, الظلام المضاء على شارع (ابن خلدون) في مدينتي الهادئة (حمص) وأفاويح نسيمات ناعمة رقيقة ترف في حرارة المدى وقيظ الفضاء وترطب وجوه الناس الجافة بوميض برودة ونفحة عذوبة..

لقد بدأ فصل الخريف, أحلى فصول السنة في بلدتي وألطفها.. وها هي الطرقات والحدائق ومقاهي الرصيف والمتنزهات الشعبية تزدحم بروادها وتكتظ بالهاربين من ضغط الحياة, وسجن البيوت الى رحاب الطبيعة ومغانيها العذاب... وها أنا واحد منهم أبحث عن رعشة هواء ندية في هذا الجو العياء وعرق الأجساد المتصبب وضيق الأنفاس من الحر الشديد.‏

كانت قدماي الشاردتان تسيران حرتين على غير هدى.. كآبة بلا سبب واضح ترين على صدري, وتسيطر على نفسي , وحزن في العينين يوغل فيطفىء شعاعهما الكليل بوطأته الفادحة.. أشعل سيجارة وأمشي الهوينى بلا اتجاه أو هدف.. تقودني الدروب الى الضياع وتختزل عمرا عاشني وعشته بالذكرى: إنها الملجأ الوحيد.. أحتمي به من جنون أو موت وأستقوي بدفئه وحنانه على مغالبه ما تبقى لي من أجل, وأنا أرى انهيار الزمان والمكان والإنسان والأوطان, والتسارع نحو السقوط في هوة العدمية والفناء القريب. ولأعترف, بصراحتي, إنها رومانسية شاعر أبهظه ثقل الواقع ففاء الى ظلال الماضي يستاف أرجها وأريجها , وقبع كشجرة صفصاف على ضفاف (العاصي) يبكي ويستبكي, إذ لم يبق أمامه سوى الدموع بدل أن يطحن العتمة في مواجهة ويستنبت النور في مراجعة ويقهر اليأس في نضال ولو تكسرت على جسده وروحه النصال تلو النصال.‏

وتتلجلج بي الخطا والمسافات.. الى أين..? لا أدري!! ها أنذا أدرج في أزقة حي (جورة الشياح) الصاعدة الهابطة, الملتوية المستقيمة وأحدق في المقهى ببنائه الأثري والجلوس يتلاعبون بالورق أوالنرد وهم يحتسون الشاي ويتسامرون سمر الأحبة, وأعرج في مشيتي السادرة على ذاك المنعطف المطل نحو (مدينة الملاهي) وأمر بجانب بيت الشاعر (رفيق فاخوري), آه.. كم زرته في هذه الصومعة المحببة الى ذكرياتي وخصوصاً عندما كنت طالباً جامعياً أدرس اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة دمشق, وكم أعارني من الكتب والمراجع عوناً لي على تحصيلي العلمي وكم عبر أمامي عن إعجابه بالشعر الأصيل والغناء الأصيل والموسيقا الأصيلة والألحان الأصيلة, وكم كان يزري بالشعر الحديث والغناء الحديث والموسيقا الحديثة والألحان الحديثة.. كان شاعراً يذكرك شعره بشعراء جبل (البرناس) انضباطاً ودقة وحرفة وصنعة.. أماتته الاشارات الضوئية وحرصه الشديد على التقيد بالنظام, نظام السير في بلد غريب .. في (تركيا)فعاد الى وطنه مسجّى في تابوت.. بعد أن صدمته حافلة نقل للركاب.. وآه.. كم أحب الحياة وأحب المرأة وأحب السفر وأحب الحرية وأحب أصدقاءه (دري الأخرس) و(محجوب شاهين) و(أحمد الجندي) وغيرهم وكم كره الموت وكره الزواج وكره الاقامة وكره العبودية وكره العداوة والأعداء والخصومة والمتخاصمين وترود على خاطري أبيات له مثقفةمن محككة أحفظها فتهمس بها قصيدة شفتاي تمتمة:‏

يا معين الظمآن يا ثغر من أه‏

وى, تقبل في طاعة الحب نفسي‏

سكرت من جناك روحي لما‏

أن جعلت المقبّل الحلو كأسي‏

وتغاضى الزمان عن رشفات‏

هن راحي, وهن مبعث أنسي‏

قبلٌ, سحرها أباح جناني‏

ولظاها المشبوب أخمد حسي‏

وتشرد بي الخطا في سكون الليل وهدأة خيمته, وحيداً.. ظلي معي.. ومعي عدة الكآبة وعتاد الحزن, ومعي جعبة للذكرى.. ذكرى أصدقاء الماضي الجميل, على فارق السن, ومعي جعبة من أعشاب العمر الباقية, وخافق مايني قادراً على الهوى, مفعماً بالشعر, وبهما فخورٌ أنا متغاوٍ.. وأجد نفسي بجوار (الملعب البلدي) أطوف حول ملحقاته الفسيحة وأتملى من النظر الى أشجار النخيل الباسقة وقد انعكس عليها نور القمر الفضي واختلط بأضواء الكهرباء البرتقالية, فبدا الظلام الشفيف كأنه قد استحال الى نهار مشمس في وقت الأصيل, وأتوقف قبالة بيت الشاعر اليتيم أو (الأطرش) كما كان يحلو له أن يصف ذاته (رضا صافي).. آه أتذكر أستاذاً في التجهيز الثانية, أو تجهيز (خالد بن الوليد) بتسمية لاحقة, وعطفه علي وعلى أمثالي من الفقراء يوم لم يتمكن أهلونا لضيق ذات اليد من تسديد أقساطنا المدرسية في المدارس (الرسمية) وتأجيل دفعه مرة ومرة, ثم تبشيره للطلبة في صباح شتائي بأن الأقساط في هذه المدارس قد ألغيت نهائياً وأن التعليم فيها قد أصبح مجانياً, فتورق قلوبنا, نحن التلامذة اليافعين آنذاك بفرحة في الصدور ودمعة في العيون,.. وأتذكر فيما أتذكر, زياراتي المتكررة له وهو يعمل في سفره الخالد وأثره الرائد, المؤلف من أربعة أجزاء (على جناح الذكرى) وتقديمي ما أستطيع تقديمه له من عون ثقافي أو مادة مرجعية لإنجازه وأتذكر من جملة بواقي ذكرياتي بصدده مجلته (الأمل) وكيف قرأت أعدادها بعد أن توقفت عن الصدور وتقديري لمستواها الأدبي الراقي, فقد كانت وسطاً إبداعياً لكبار كتاب سورية وأدبائها, وتعنّ على بالي قصائده التي كان ينشرها في مجلة (النقاد) بدمشق ونشيده الحماسي الذي نظمه عن فلسطين ولحّنه الفنان (موسى بندقي) أستاذ الموسيقا في الثانوية, وروعة ترديدنا له نحن الطلاب بحمية واندفاع, وشعور حار بالوطنية والعروبة, في حفلات منتصف العام الدراسي وآخره, يقول مطلعه:‏

يممّوا شطر فلسطين سراعا‏

فتية تنتزع الموت انتزاعا‏

وأنتشي نشوة عارمة بيني وبين نفسي وأنا أستحضر أبياتاً له من قصيدة معروفة طبعت مراراً في الصحف والمجلات لشهرتها وسيرورتها أستعيد المقطع الأول منها:‏

أقبل الليل ولليل إذا وافى جلالُ‏

وتوارى البدر خلف السحب, والسحب ثقالُ‏

هدأ الكون وهبّ الريح تزجيه الشمالُ‏

وأوى الزارع للمضجع أضناه الكلالُ‏

لا يرى أن يبرح المنزل فالسير ضلالُ‏

ليلة حالكة الثوب أطافت بالأنام‏

أينما يممّت لم تسلك إلا في الظلام‏

في الثمانين من عمره ونيف, وهو في بدانته المفرطة, يُصاب بكسر في ساقه أو حوضه, ويظل طريح الفراش يعاني ما يعاني من وهن الشيخوخة وآلام العظم, الى أن يوافيه الأجل المحتوم في اليوم المرقوم فيلاقي وجه ربه شكوراً بعد أن منّ عليه بنعمة القيام بدوره التعليمي والشعري في خدمة أجيال وطنه وأبناء أمته.‏

ويغيم بي القلب وتعود معي الخطا أدراجها الى وسط المدينة, الى عمقها, ثم الى أحيائها الشعبية بأصالتها وتقاليدها الشرقية المستحبة.. وتتلامح الصور البعيدة تقربها المخيلة ويجلوها الخيال لتتذكر جلسات الأدب والأدباء في (حمص) ومقاهيها القديمة مثل (الروضة) و(الدبلان) ومقاصفها المستحدثة مثل (ديك الجن) و(عبّارة) في منتصف هذا القرن حيث كان الزمن وردة والأمل سنبلة والشعر خميلة, وحيث كان الشباب يترع الروح مفتوحاً على ربيع الحياة وأفاويق عذوباته وانطلاقاته, لا همّ ولا غمّ إلا بمقدار ضئيل ولا مسؤوليات جساماً إلا على النزر القليل, وأجد نفسي وقد وصلت بي القدمان الشاردتان الى حي (باب هود): المحالُّ مغلقة, الصمت يهيمن على الأمكنة, الخرائب تملأ شارعه الأساسي بعد أن اكتسحته الجرافات مؤخراً تمشياً مع التنظيم العمراني الجديد للمدينة وهدمت فيما هدمت دار الشاعر (محيي الدين الدرويش) وأبادت بيتاً له ظل لمدة نصف قرن تنبت فيه أجنحة الشعر واللغة وتقوى وتترسخ على حجره الأرضي الأسود أقدام النحو وإعراب القرآن الكريم خصوصاً, بدل أن تجعل منه متحفاً أثرياً يزوره شداة الأدب ومحبو القريض.. كما يجري ويتحقق في تاريخ آداب الدول الأجنبية غربيّها وشرقيّها أتذكر (الدرويش) -وقد كان أستاذي في المرحلة الاعدادية- يستحضر شعره على ضفاف الميماس ويترنم به في سويعات خلوته مع ذاته كما أفعل الآن:‏

وحبّبت هاتيك المرابع أنها مطارح لهو للشباب روافل‏

تطيع دواعي الغيّ وهي خلوبةٌ وتقتنص الآمال وهي حوائل‏

ويتابعني سيل الذكريات: مات ابنه عون الدرويش زميل الحرف والكلمة والقصيدة والصحفي العتيق المخضرم والشاعر الرومانسي المطبوع بعد أن أنذره ذوو الشأن من المسؤولين في مجلس المدينة بأنهم سيزيلون من الوجود بيت أبيه وبيته من بعد وفاة والده وأعطوه ليجلو عنه مهلة أربع وعشرين ساعة كما قيل.. غصّ قلبه.. انفجر شريان فيه من حزن وتصدع من غضب قبل انقضاء مدة الانذار وأسلم الروح في لحظة احتراق وأسى وغضب واحتجاج, ويخطر على بالي بيته الشعري الحزين التالي من قصيدة له نظمها في مطلع شبابه, يرثي بها بؤس حاضره وسواد مستقبله ويختمها -وقد صح توقعه- بقوله:‏

صديقتي, كلما جاوزت مرحلة تذكري أنني أحيا بغير غد.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية