تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قبل عودة الوعي

كل أربعاء
الأربعاء 4-1-2012
سهيل إبراهيم

لم تعد تملك رصيداً وافراً من العمر، كي تركل الأعوام، وترميها إلى الخلف وهي تنسق موضعها في كتاب الماضي، ولم يعد المقبل من الأعوام منجماً للحلم تتلهف عيناك لاستجلاء كنوزه،

بعد أن أتقنت على مدار عمرك كيف تؤبن أحلامك وترسلها إلى مقابرها برباطة جأش وحزن يجلله الوقار، صرت ضنيناً بالسنين حين تذعن للرحيل، حتى ولو اصطبغت بالدم، وصرت متوجساً مما تستقبل من تقويم الزمن المقبل، لأنك على يقين أنه خارج فلك المعجزات، وجل ما يستطيع أن يمنحه لك، هو البقية الباقية من الرتابة التي تتنفس فيها يوماً بعد يوم، كآخر دليل على الحياة!‏

رغم ذلك فالعام الذي انقضى، كنت تستعجل نهايته، بأقصى ما تملك من توق للإفلات من النهايات الفاجعة، ليس لأنك كنت تقرأ في دفتر العام الذي بتنا نقلب صفحاته، خلاصاً أو أجوبة عن الأسئلة الفاجعة التي ارتسمت في وعيك على مدى الأشهر المريرة الفائتة، بل لأنك كنت تحاول خداع نفسك أن هذه الفواصل الزمنية بين الأيام والأشهر والسنوات، ربما تصبح ذات مرة فاصلاً بين المحنة وشروق الأمل، أو معلماً يدل على طريق آخر نلجأ إليه جميعاً، بعد أن ضاقت بنا الطرق، وشحت الخيارات، وأوغلنا في لعبة الدم التي بات الخروج منها أولى الأولويات، لأنها لا تشبهنا، ولا تليق بوطن لم يبذل رجاله دماءهم من قبل إلا في تلبية نداء الواجب، منذ ما قبل ميسلون، وما بعد تل الفخار وملاحم جبل الشيخ!‏

بتنا كلنا نعرف كيف تسللت هذه اللعبة الدموية إلى أرضنا، وكيف نصبت لنا شباكها، كي تحرف خطانا عن سيرها نحو المناخات الجديدة التي نتعافى فيها من عللنا التي كشفنا عنها في بنياننا السياسي والاقتصادي، ونجحنا في تشخيصها واتجهنا لعلاجها تحت ضوء الشمس، بخبرة وطنية واسعة الطيف، في تصحيح الخلل وتدعيم الجسور، وترميم الجدران، وصرنا كلنا نعرف أن الحوار السلمي بيننا جميعاً، هو وحده الضامن لقيامة وطن جديد، وأن جنون السلاح هو الوصفة القاتلة لمجتمع تعود على تقاسم حياته بيسر وليونة وتراحم لم يعرفه مجتمع من قبل، فمن أدخلنا إذاً في أتون هذا الحريق المفتعل، ومن منا تواطأ على وطنه ومواطنيه وقرر أن يمضي في هذا الخيار الأعمى إلى نهايته؟!‏

بين الخارج والداخل، صار بوسعنا أن نقرأ المشتركات التي تفاعلت، وأطلقت في وجوهنا، ومازالت تطلق، كل هذه المخاطر، التي تهدد مصيرنا، خارج ٌ بكل تلاوينه لا مصلحة له بأمننا واستقرارنا، ولا يعنيه من شأننا إلا أن نستنزف قوتنا ونتنصل من طموحنا، وندمر قواعد نهضتنا وحضارتنا، فمن في الداخل تعاهد معه على هذه المهمة الشيطانية، ومن في الداخل مازال يعتقد أنه بقوة السلاح والتواطؤ مع الخارج سوف يستطيع اقتناص وطن من شعبه ولو حوّله إلى ركام، وأين ومتى يأتي دور الديمقراطية والحرية وثقافة المجتمع المدني، في مجتمع مزق نسيجه السلاح، وحوله إلى حقل تجارب لتكوين الدويلات الجديدة من رحم سايكس بيكو جديد رسمت خرائطه خلف المحيطات!‏

كل شيء قابل للحوار، إلا التضحية بوطن سقينا أشجاره من عروقنا، ورفعنا شواهده الحضارية على أكتافنا، ونسجنا أحلامه من ضوء عيوننا، ولدنا على ثراه ومشينا وتعلمنا القراءة والكتابة وأبدعنا وعشقنا وتمازجنا حتى صار كل واحد منا يشبه الآخر، اختلف يسارنا مع يميننا، ووسطنا مع مغالينا، وجاهلنا مع عالمنا، لكننا صوبنا الخلاف بالاتفاق على أن الوطن لنا جميعا، أخفقنا في بعض المرات ونجحنا كثيراً في الالتقاء على اللغة المشتركة، التي كانت تسمح لنا في كل امتحان أن نتشابك بالأيدي لنعلي على تراب الوطن صرحاً جديداً يحمل أسماءنا كلنا، والوقت الآن وقت تشابك الأيدي، قبل فوات الأوان ووقت عودة الوعي قبل أن تبتلعنا المجاهيل!‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية