تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في البدايات...

آراء
الأثنين 1/12/ 2008 م
جلال خير بك

لا أدخل مرة إلى مشروع دمّر, حتى أتذكر بداياته..يوم كانت الأعمال قائمة على قدم وساق تجسيداً لما قدّمه قطاع التعاون السكني..وأتفرج على هذه الضاحية بل المدينة الجميلة التي صار كثير من أهالي دمشق يهربون إليها طلباً لهدوئها ونقاء هوائها ورقيّ مبانيها ونظافة شوارعها وتوفر كل الخدمات فيها..هي عالم قائم بذاته, له كفايته على شتى المستويات حتى إنّ عدداً من الدوائر والوزارات: صارت مقرّاتها هناك.

كانت دمر أيام زمان مصيفاً لأهل دمشق..وكانت تعدُّ بعيدة في تلك الأيام..لكنها توسعت بفضل مشروعها هذا حتى غدت حيّاً راقياً من أحياء دمشق الفسيحة, وصرنا (نحسد من الأعماق!) من يقطنون في ذلك المنال البعيد القصيّ عن الإدراك!..إذ إنّ المساكن الجاهزة التي وزعتها الدولة على الموظفين وكان لأهل الإعلام نصيب منها: حرمتنا من نعمة الاشتراك في جمعيات مشروع دمّر.‏

إذ تقضي القوانين بأنه لايحق (للمستفيد من مسكن من الدولة): أن يشترك في أي جمعية سكنية ليبقى للآخرين فرصة الاستفادة.‏

وعلى النعمة التي وجدناها آنذاك في المساكن الصغيرة الضيقة التي وزعت علينا: فقد وجدنا أيضاً نعيماً حلّ علينا فانحشرنا مع أُسرنا كيفما اتفق الحال خاصة وأن أثمانها مقسَّطة على خمس عشرة سنةً!!‏

وكان مشروع تجمع دمر - كما ذكرت - يخطو خطواته الأولى الجادة, ويجري العمل فيه كخلية نحل, ويشرف عليه مهندس اقترح الفكرة (كما سمعنا) ونفذها هو والسيد سعد الجبري كما أذكر.‏

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر..فلابدّ من العودة إلى البدايات التي تساءلت فيها (في هذه الصحيفة) عن مآل آليات ومستلزمات العمل فيه بعد الانتهاء منه.. واقترحت آنذاك أن تُحسب أثمانها وأثمان ماتبعها فتُحسم من أسعار الشقق ويستفيد منها مشتركو الجمعيات كافة.‏

يومها قامت الدنيا وماقعدت وعدّ اقتراحي هذا مساساً بالقطاع العام وبالتعاون السكني أيضاً!! رغم أن الناس أوجعوا رأسي من كثرة ماعاتبوني على (تعصبّي!) لهذين القطاعين وللقطاع العام عموماً!‏

ولئن بدا اقتراحي يومها (غير مقبول) فقد سحبته وأوصلت للسيد (جبري) أسفي إذا كان هو أو غيره قد فهموا موقفي خطأ!!...ولأنّ الاعتراف بالخطأ فضيلة كما يُقال..فقد اعترفت وأعترف الآن بالأسف ماداموا قد فهموني وفهموا اقتراحي على تلك الشاكلة!!..وإنني أسجّل الآن للسيد (جبري) وغيره تقديري للفكرة والتنفيذ الذي جعل من هذا المشروع جنةً بكل معنى الكلمة مع أنني لم أقصد الإساءة يومها.‏

وقد هاجمني آنذاك زملاء صحفيون ارتأوا أن مجرد إبداء الرأي في هذه المسألة هو نوع من الكفر!! حتى إن الأستاذ عميد خولي قد طلب منهم يومها, ألاّ يردوا على جوابي لهم وألاّ يدخلوا في مساجلات أنا وهم بغنى عنها!!‏

ولأنني منذ مطلع حياتي وحتى شيبي الحالي: كنت من المدافعين عن القطاع العام وقطاع التعاون السكني..ومازلت حتى اللحظة أنظر بأسى إلى ماأصاب القطاع العام عموماً..‏

وإلى الحال التي وصل إليها في هذه الأيام حتى إنه غدا عبئاً (ثقيلاً) كما يراه أصحاب القرار .. ويرون بيعه أو تلزيمه أو كما يقال : (خصخصته) لكأنه شوكة في الحلق!!‏

ماذا جنى هذا القطاع وقد وفرّ لنا خدمات لا تعد ولا تحصى غيرة منه على شريحتنا الكبرى الفقيرة ?! .. نعم سيخسر لأننا لم نحسن انتقاء كثير من إداراته ..ولأننا نحن وقوانيننا لم نسمح له بأن يجدّد نفسه وآلاته وخطوط إنتاجه!! فشركة رابحة مثل شركة الكرنك: كانت على وفرة الخدمات الرائعة التي قدمتها, وعلى النجاح الفائق الذي حققته في قطاع النقل والكوادر الخبيرة المدّربة التي خلقتها: كانت رغم ذلك لا تستطيع أن تشتري من أرباحها ومداخيلها: قطعة غيار لبولمان واحد من أسطولها!! وبالتالي لا تستطيع أن تشتري باصات جديدة بدل بولماناتها القديمة:, فقصرت في عملها وخدماتها لأن أرباحها كانت تعود كاملة إلى صندوق الدين العام أو خزينة الدولة وليس لها حق التصرف بقرش منها إلا بعد اجتماعات وموافقات لجنة وزارية كثيرة العدد!‏

وكذلك الشركات الأخرى التي لا تستطيع بإدارتها (غير الموفقة) أن تجدد نفسها وآلاتها وخطوطها, فنسينا ماضيها وقيمة ما قدمته في أيام العسر وصارت كمن يلقى مكتوفاً في اليم ويقال له: إياك إياك أن تبتلّ بالماء!!‏

ليست القضية الآن, قضية تأسٍ وأسف, هي عودة إلى ما أنجز من ضواح سكنية راقية وجميلة .. فأين ذهبت تلك الكوادر?.. ما مصير العاملين فيها من الفقراء والبؤساء على خبرتهم ودربتهم? والتي شهدت لها دول شقيقة وصديقة في المشاريع الانشائية والسكنية التي أنجزتها كما في لبنان وجنوبه.. في ليبيا.. في أوكرانيا أيام الاتحاد السوفييتي السابق..‏

إن مشروع دمر ومشاريع الضواحي في حمص واللاذقية وحلب وحماة ومختلف المحافظات السورية: هي شواهد حية لا تزال قائمة كدليل راسخ على قيمة الأعمال والإنجاز الفني الذي قدمه هذان القطاعان.‏

حين يرسم الفنان لوحة ناجحة, جميلة ورائعة: لا يرمي ريشته ويقول: هنا انتهيت!!‏

بل يفتق إبداعه ويحقق فناً راقياً حين يستمر في عمله بلوحات كثيرة يضمها معرضٌ فنيّ فسيح.. فكيف لنا أن نعرقل ذلك العمل الخلاق?.. وهل الأمر أقل من أن يستحق محفزات للإبداع والاستمرار رغم الأخطاء التي ترافق كل عمل .. فمن لا يعمل لا يخطئ أبداً?‏

صحيح أن بعض ضعاف النفوس قد رافقوا تلك التجارب الناجحة ( واستفادوا) منها على حساب غيرهم.. لكن الأمر خرج إلى حيز التنفيذ والإنجاز وأقصي أولئك ( النظيفون) وبقيت التجربة في جوهرها أمراً جيداً يسعى إلى آفاق أفضل وأرحب.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية