تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


العولمة التي نريدها ونؤيدها

دراسات
الاثنين 1/9/2008
بقلم: نبيل الملاح

ما إن بدأ الاستعداد لاستقبال الألفية الثالثة, بدأت الأحداث الدراماتيكية تتوالى وبصورة مفاجئة لتغير معالم النظام العالمي ,وتؤدي إلى تغييرات جذرية في بنية ظهرت في بداية العقد الاخير

من القرن الماضي, وتبلورت بشكل واضح في بداية هذا القرن,و التي جاءت مع بداية الألفية الثالثة.وأهم الصور التي تجلت للنظام العالمي الجديد (العولمة) بشكلها ومضمونها الذي تبنته الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً بما يحقق مصالحه وفق رؤيته التي دفعت الكثيرين إلى تعريف هذه العولمة بأنها (الرأسمالية المتوحشة) بالنظر إلى أنها ركزت على الوجه الاقتصادي بشكل أساسي ومباشر وتجاهلت الوجوه الأخرى الاجتماعية والثقافية والعلمية والتنموية, وخاصة بالنسبة للدول الفقيرة والنامية التي تضررت كثيراً من جراء فرض سياسات وتوجهات باسم العولمة أدت إلى خلل كبير في أوضاع هذه الدول تنذر بنتائج خطيرة إذا لم يتم تداركها بإعادة النظر في مضمون وتطبيقات العولمة وفق رؤية عميقة ومتوازنة تأخذ بعين الاعتبار واقع ومتطلبات الدول الفقيرة والنامية وبالشكل الذي يضمن توزيع ثروات العالم وخيراته بعدالة وموضوعية.‏

ومن هذا المنطلق نرى أن العولمة كما يجب أن تكون - وفق الشعارات والعناوين التي أعلنت - وكما نريدها ونؤيدها, هي العولمة التي تجعل من العالم قرية كبيرة يتمتع جميع سكانها بخيراتها وحقوقهم الحياتية والإنسانية ويؤمنون حاضرهم ومستقبلهم.‏

فالوجه الاقتصادي للعولمة يجب أن يظهر بالصورة التي تحقق الاستقرار الاقتصادي في دول العالم الغنية والفقيرة كافة, بدلاً عن الصورة التي نراها اليوم حيث الأزمات الاقتصادية تنتشر بشكل أوسع وأزمة الغذاء العالمية تظهر وتتنامى لأسباب لا أجد لها مبرراً واحداً جدياً, وإن كنت أرى أن سبب هذه الأزمة الحقيقي هو السعي لتطويع الشعوب وإرضاخها من خلال تجويعها والتضييق عليها معاشياً, جاهلاً أو متجاهلاً من يخطط لذلك, إن في ذلك خطراً كبيراً على أمن العالم برمته وعلى مصالح الدول الغنية بنهاية الأمر...‏

إن أبسط حقوق الشعوب أن تحصل على لقمة عيشها بكرامة وكفاية, وبدونها ستصل إلى حالة تفضل بعدها الموت على الحياة, ومن هنا تبرز وتتنامى التيارات الأصولية المتشددة والجريمة المنظمة وغير المنظمة وينتشر الفساد بأشكاله وصوره المتعددة.‏

إن اقتصاد السوق بمفهومه الرأسمالي وآلياته العولمة سيؤدي إلى إضعاف اقتصاديات الدول الفقيرة والنامية وبالتالي حدوث خلل اقتصادي واجتماعي فيها لن تكون الدول الكبرى الغنية بمنأى عن عواقبها..‏

وعليه يجب على الدول الكبرى التي تقود العالم أن تعي أن مصلحتها تقضي إعادة النظر بالوجه الاقتصادي للعولمة وصياغة مفهوم متوازن لاقتصاد السوق وآلياته, بما يضمن عدم حدوث ما نراه من أزمات تمس حياة الشعوب وأمنها الغذائي, وضبط أسعار النفظ التي ارتفعت إلى حدود غير معقولة على الإطلاق ستضر من حيث النتيجة بمصالح الجميع بمن فيهم الدول النفطية ذاتها..‏

أنتقل إلى الوجه الثقافي والعلمي للعولمة بعد أن أدغمت الوجه الاجتماعي مع الوجه الاقتصادي, لأقول إن العولمة وفق الرؤية التي قدمتها توجب على الدول التي تمتلك العلم والتكنولوجيا تعميمها على دول العالم كافة للاستفادة منها في جميع المجالات, وخاصة في مجال الطاقة, حيث من حق كل دول العالم الاستخدام السلمي للطاقة النووية تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.‏

وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة الحد من انتشار الأسلحة النووية وتنظيف العالم من خطره وأوبئته والتعامل مع هذه القضية بمعايير دقيقة تطبق على الجميع دون استثناء وعدم استغلالها لأغراض سياسية غير عادلة وغير أخلاقية كما جرى بالنسبة للعراق وكما يجري مع إيران التي يجب التعامل مع ملفها النووي بالطرق السلمية وفق ما يظهر للوكالة الدولية للطاقة الذرية.‏

وأما الوجه السياسي للعولمة فيجب أن يراعي حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وإدارة شؤونها ودعم قضاياها العادلة, وخاصة تلك التي أقرتها الشرعية الدولية, ولا يجوز بحال من الأحوال استخدام قضايا الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ذريعة للضغط على هذه الدولة أو تلك بما يؤدي إلى تذمر الشعوب من طرح هذه القضايا السامية في الوقت الذي يعانون فيه من اغتصاب لأراضيهم واستغلال لثرواتهم, كما هو الحال في الشرق الأوسط نتيجة الصراع العربي الإسرائيلي, هذا الصراع الذي لن ينتهي إلا بتحقيق السلام العادل والشامل, السلام الذي يعيد الحقوق إلى أصحابها, السلام الذي لا ينتج عنه هيمنة أو استغلال, هذا السلام الذي تبناه العرب جميعاً وقدموا مبادرتهم المتكاملة التي تضمنت اعترافهم بالدولة الإسرائيلية مقابل إقامة الدولة الفلسطينية, وفي ذلك عبروا بشكل صادق عن إيمانهم المطلق بالسلام متجاوزين الجدل والخلاف التاريخي والقانوني حول أحقية الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة عام 1948, فماذا على العرب أن يقدموا أكثر من ذلك..?!‏

إنها فرصة تاريخية على الجميع أن يستغلها, وعلى أمريكا والدول الأوروبية أن تضغط على إسرائيل للإسراع بعملية السلام, وأن يعي الجميع أنه في حال تأخرها ستنمو سريعاًَ التنظيمات المتطرفة التي ستعود بالأمور إلى مربعها الأول, وتصبح منطقة الشرق الأوسط مرتعاً خصباً للتطرف والإرهاب (كما يسمونه), وبذلك تصبح مصالح العالم كله بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية - مهددة تهديداً جدياً كون منابع النفظ واحتياطياته الكبيرة كافة في هذه المنطقة, وتصبح إسرائيل وترسانتها النووية في خطرٍ داهم.‏

إن العرب والمسلمين دعاة سلام ومحبة, وتاريخهم يشهد لهم بذلك, وما يظهر أحياناً من تطرف كتنظيم القاعدة وغيره لا يمكن ولا يجوز تحميله للمسلمين والعرب ويبقى محصوراً بالإطار والأفراد الذين ينتمون إليه بغض النظر عن الظروف والأوضاع التي دفعتهم إلى ذلك.‏

هذه هي رؤيتنا للعولمة التي يجب أن تكون, العولمة التي تحقق الأمن العالمي ومصالح دول العالم جمعاء غنية وفقيرة, كبيرة وصغيرة ,قوية وضعيفة.‏

تلك هي العولمة التي نريدها ونؤيدها, تلك هي العولمة التي يسعى إليها كل إنسان يعيش على هذه الأرض, هذا الإنسان العاقل الواعي المؤمن بأن الأرض وما عليها هبةٌ من الله لخلقه دون استثناءٍ أو تمييز.. وأختم بالقول: إن العولمة بصورتها الحالية التي أعتقد أنها ستبقى زمناً ليس بقصير - توجب على العرب التوحد والتضامن والاتحاد, فعالم اليوم لا يراعي وجود مصالح الكيانات الصغيرة والضعيفة, وعليهم أن يسارعوا إلى تجاوز الخلافات وإجراء المصالحات المطلوبة التي بدونها سيكون النظام السياسي العربي برمته في خطر.‏

* وزير سابق‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية