تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قصة ظل

الرسم بالكلمات
الاثنين 1/9/2008
سعيد نبيل غاتا

لقد سئمت هذا الجسد البغيض, ضجرت دور التابع المطيع..لم أعد أستطيع احتماله وهو يدوسني بلا مبالاة, ويرمي بثقله على كاهلي كلما جلس أو استلقى. سئمت كل شيء فيه..

سئمت أنفه المدبب وعيونه الغائرة. كرهت رائحة عرقه, أحزانه, آلامه. ضحكاته..مللت فقره بؤسه, ضعفه وتعثيره.. آن الأوان أن أفعل شيئاً.. آن الأوان لأخرج وأكتشف العالم بنفسي وأكتشف نفسي.‏

هذا ماكان يردده ظلّ ضجر من صاحبه في كل ليلة..‏

كانت فكرة الاستقلال والرحيل تدور بخلده باستمرار وبلا توقف, تستثير هواجسه وتقضّ مضجعه, تجعله هاذياً على الدوام.‏

في فجر أحد الأيام, مع بزوغ أول خيطٍ للشمس, اتخذ قراره, صمم على الذهاب, انفصل عن ذلك الجسد النائم, وانطلق قبل انبلاج الصبح.‏

انطلق برشاقةٍ لم يعرف لها مثيلاً من قبل, راح يجوب الطرقات وينزلق على الأبنية, يعتلي الأشجار, يتمايل بجذلِ ولدٍ يلعب.‏

كان يتسربل الدروب ويحلق من مكان إلى آخر..ربط الشرق بالغرب..بسط الشمال عباءةً للجنوب.. صال وجال كما حلا له طوال النهار بخيلاءٍ وزهو ممتطياً قوس القزح, ساخراً من الدنيا ومن عجائبها, ومن البشر..‏

للمرة الأولى, شعر بحريةٍ لم يألفها من قبل.‏

ولج أكثر الأماكن غرابة.. دخل أمكنةً متسعةً وأخرى ضيقة..اقتحم القصور والبيوت والأبنية, المطاعم والملاهي, السراديب والأنفاق السرية.. تخطى حدود الممنوع, كشف الخفايا, تلذذ بمذاق المحرمات. وتحسس كل مالم يكن يحلم به..‏

للمرة الأولى, شعر باللذة والمتعة.‏

كان يعبر الشوارع غير هيّابٍ للموت.. لم يخشَ أن تدهسه سياراتٌ مسرعة, ولم تخفهِ ركلات أرجل المارّة. سقط في حفرٍ عميقةٍ ونهض ببساطة, لم يُصب بأي أذىً رغم تعرضه لعشرات الحوادث.. تخطى بسهولةٍ الأسوار والحواجز والحدود, جيوشاً ودبابات, نيراناً وقنابل وألغاماً..‏

للمرة الأولى أيضاً, شعر بالقوة والجبروت.‏

( كم كان شأني منتقصاً حين كنتُ حبيس ذلك الجسد البائس الفاني.. كيف ارتضيت أن أكون له تابعاً?!, جماداً? لقد كنت مجرّد خيالٍ تافه.. أما الآن فأنا خارق.. لم أعد ظلاً بعد الآن.. أنا أزلي.. أنا إله).‏

مرت الساعات وهو يطوف ويشق عباب الدنيا ويفعل كل مايشاء مستهتراً, دون أي عائق.. متوّجاً نفسه ملك الكون.‏

حلّ الظلام, ولبست المدينة ثوب الأضواء السحرية.. الأنوار في كل مكان تمنح الظل قوة متجددة..‏

لقد أعجبه التحليق بين المصابيح الساطعة, راح يقفز من عمود إنارة إلى آخر, فتارة يستطيل ويتمدد, وأخرى ينكمش ويتقلص, تراه في بعض الأحيان مارد مصباح وأحياناً قزماً.. كانت تلك لذة عجيبة يحسده عليها كل ظلٍ في البلاد..‏

راح يقفز ويقفز ثملاً بنشوة الحرية, من غير وجهةٍ أو اتجاه.. ولم يشعر بنفسه إلا وقد بات خارج حدود المدينة, على طريقٍ فرعية قديمة شبه مهجورة.‏

هناك, دون سابق إنذار, حدث مالم يكن في الحسبان, أصاب الشبكة الكهربائية القديمة تماس, انقطع التيار, وانطفأت وانطفأت أنوار الأعمدة العتيقة المنصّفة للطريق.. ساد ظلامٌ باردٌ خانق.‏

اسودت رقعة السماء التي كان الظل يعربد تحتها.. اختفى كل أثرٍ للنور.. حتى أنوار المدينة باتت بعيدة, خافتةً وخفية.‏

المركبات القليلة التي اعتادت عبور ذلك الدرب, اعتصمت وأحجمت عن المرور, لم يعد هناك سوى بصيص خافت آتٍ من النجوم.‏

نظر الظل إلى حاله مذعوراً, وجد نفسه يضمحل ويذوب, ارتعب.‏

لم يكن يصدق ماكان يحصل.. لم يعد يعلم ماذا يفعل! جن جنونه, فقد اتزانه.. لقد تاه, ضاع لا محالة..‏

في محاولة يائسة لمواساة نفسه, استطاع أن يقنع ذاته بفكرةٍ حتميةٍ: ( وراء كل ليلٍ صبحٌ سيطلع لا محالة ) ..ارتاح باله مؤقتاً, وجلس يُحصي سنواتٍ ليليةٍ طويلةٍ, راحت تمرّ ببطءٍ, كأنها لا تمر.‏

فيما كان يقضي ساعات الانتظار المقيتة, لاح في الأفق جسم قاتم عملاق يقترب من البعيد, يبسط جناحيه ملئ الفضاء, لم يكن ذلك الجسم المجهول سوى غيمةٍ سوداء كبيرة, لن تلبث أن تغطي محيا السماء بالكامل, وتخفي بصيص النجوم الشحيح بعد لحظات.‏

صُعق الظل, شهق بأنين..دارت الدنيا من حوله, تأرجح هو بين ثنايا الحصى والتراب.. أهي بداية النهاية !!‏

بات الخطر المحدق به حقيقياً..لو غاب ذاك النور البسيط خلال ثوانٍ, سيكون مصيره الهلاك..‏

شعر الظل بدنو أجله وهو من اعتبر نفسه خالداً..حاول أن يبكي, حاول أن يستنجد وينادي: ( ماذا يحصل?! أنا أحتضر..أنا أموت..ولن أتمكن من فعل شيء قبل الصباح?! جلّ ما أخشاه هو أن أفنى قبل أن يطلع النور..ماذا أفعل! النجدة).‏

لكن صوته الظليل تاه في غياهب البرية.‏

غمامة سوداءُ تنزلق مقتربةً..الدنيا تزداد حلكةً وقتامة..وظل متغطرساً يذوب ويضمحل تدريجياً.‏

في لحظاته الأخيرة فكر في نفسه وتحسّرَ: (آهٍ لو أنني مازلت في ذلك الجسد الذي كلما غاب النور واشتدت وطأة الظلام, التصقت به, وصرنا أنا وإياه واحداً.. كم من ظلالٍ الآن تنام قريرة العين مرتاحة البال, وأنا هنا شريدٌ معذبٌ أقضي نحبي دون أن يحسّ بي أحد.. لعمري إن حلكة ظلام القبر وأنا ملتحمٌ مع ذلك الجسد, أسهل وأرحم ألف مرةٍ من أن أكون شريداً وتائهاً في ظلام المجهول).‏

ركع الظل بأسىً, أكل التراب تقرّعاً, بكى بحرقةٍ وانتحب: (أنا الأحمق الذي حسب أنه قد وجد الخلود والأزلية.. اعتقدت أنني لن أفنى, أنني لن أموت!..‏

ها أنا الآن.. أشعرُ بدنوِ أجلي وأشهد نهايتي دون أي مقاومة).‏

لحظات الترقّب التي بدت أول الأمر متثاقلةً, صارت الآن تجاري البرق, والظلُ المنكوب بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً..‏

فيما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة, تراءى له شبح قرص ذهبي آت من بين التلال يترنح ويلتوي مع الطريق المتعرج.. هل هي شمسٌ تائهة أو شهابٌ جامح!? هل هذا وهمٌ أم حلمٌ!??أم أنها مجرد تهيؤات شخص يحتضر لكن ذلك النور مازال يقترب فعلاً, كانت حدقته تتسع باطرادٍ كلما اقترب, مصحوبة بضجيجٍ ينفي الوهم..‏

طرق الأمل بوابة قبره قبل أن توصد, صرخ بيأسٍ: (هي ذي فرصتي الأخيرة.. لا أريد أن أموت.. أريد أن أعود إلى ذلك الجسد.. إلى جسدي.. سوف أعود, لأنني أنا منه وإليه أنتمي.. وحده ذاك الجسد سوف يعيد إليّ عافيتي).‏

استجمع أشلاء العزم والإرادة الباقية فيه, اندفع نحو فرصته الأخيرة.. رمى بنفسه إلى النور.. وتعلق به.‏

كان ذلك نور مصباح دراجةٍ ناريةٍ عابرة, متجهةٍ صوب المدينة.‏

تشبث الظلّ بالنور وطار معه, وصل إلى المدينة, انفصل عنه, ثم انطلق يجتاز الطرقات والأزقة, غير مبالٍ بكل مايجري من حوله, حتى وصل إلى منزل صاحبه.. إلى الجسد.‏

هرع مسرعاً لاهث الخُطا..باحثاً, بلغ غرفة النوم التي كانت موصدة.. تسللّ داخل الغرفة, فوجد الجسد ممدداً على السرير.‏

اقتربَ منه محاولاً الالتصاق به كما اعتاد, لكنه لم ينجح في ذلك.. حاول العودة إليه لكنه لم يستطع!‏

كان الجسد بارداً كالجليد, صلباً كالحجر الأصم.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية