تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


كيف لا نتخلّف?!!

محطة
الاثنين 1/9/2008
د. خلف الجراد

لدى عرضه المستفيض والذكي للأحداث المصرية من النصف الثاني من القرن الثامن عشر إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر للميلاد,

التي جمعت بمؤلفه الشهير( عجائب الآثار في التراجم والأخبار) , يذكر المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي(1754-1822) قصصاً طريفة ووقائع غريبة شهد معظمها بنفسه, ولاسيما في أيام( الحملة الفرنسية) عام(1798) وما رافقها من هزّات فكرية واجتماعية وسياسية, منها- مثلاً - قيام العلماء المرافقين لنابليون في حملته الاستعمارية هذه بجمع رجال الدين المصريين وإطلاعهم على بعض التجارب العلمية( الكيميائية والفيزيائية), وانزعاج الشيوخ حين وجدوا أن امتزاج بعض المواد وتفاعلها ينتج عنه دخان أحمر أو أخضر,حيث عدّوا ذلك( سحراً... من عمل الشيطان), وقالوا جازمين: (هذه ليست علوماً, فالعلم محصور في الكتاب والسنّة...).‏

وقد رأى بعض الباحثين في الفكر العربي أن ذلك الموقف شكّل إشارة البدء لمقاومة العقلانية والتنوير والتقدم ,حيث حشدت المؤسسة الدينية جزءاً من جهودها في مصادرة كتب معينة, أو منع عرض بعض الأفلام أو المسرحيات, إضافة إلى إصدار سلسلة من الفتاوى ذات الطابع السياسي- النفاقي,مثل القول: إن المشاركة في بيعة السلطان من الواجبات الشرعية التي يعاقب تاركها بالعذاب في جهنم وبئس المصير...الخ.‏

ويؤكد الجبرتي أن عصر الوالي محمد علي باشا اتسم برواج ( سوق النفاق) , خصوصاًبعد أن أصدر( محمد علي) فرماناً بعزل الزعيم الوطني المصري الكبير عمر مكرم(1755-1822) ونفيه إلى دمياط في عام 1809 ثم إلى طنطا في عام 1812, وإبعاده ثانية إلى طنطا في عام1822 التي توفي فيها في العام نفسه .‏

و يذكر الجبرتي كيف أن الشيوخ أخذوا يبالغون في ذم الزعيم الوطني عمر مكرم( نفاقاً لمحمد علي) مع أن مكرم( كان ظلاً ظليلاً عليهم وعلى أهل البلد.. يدافع عنهم... ولم يزالوا بعده في انحطاط).‏

وللتذكير فإن( السيد عمر مكرم) ( كما كان يلقب) هو الذي قاد ( عامة الناس) لمواجهة الحملة الفرنسية حين عجز الحكام المماليك عن مقاومتها. فدعا الشعب المصري للتطوع لصد هجوم الغزاة, ورفض أي شكل للتعاون والتفاهم معهم, ولما قامت انتفاضة القاهرة الثانية في آذار عام 1800 ,كان عمر مكرم في طليعة زعمائها وقادتها الشعبيين. وبعد جلاء الفرنسيين صار عظيم النفوذ بين الجماهير, فقادها في ثورة ناجحة ضد حكم المماليك . أما سبب عزله ونفيه بأمر من محمد علي, فإنه يعود لمعارضته الشديدة للإسراف في جباية الضرائب , والتضييق على الناس في معيشتهم وحياتهم اليومية.‏

ويصف الجبرتي حال رجال الدين في عصره فيقول:( وصار بيت أحدهم مثل بيت أحدالأمراء الأقدمين , واتخذوا الخدم والأعوان, وصار اجتماعهم لذكر الأمور الدنيوية وحساب الربح والفائض.. إلى أن زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس...).‏

لقد تجسد السلوك النفاقي, المتداخل مع الجمود العقلي في إغلاق باب الاجتهاد والتجديد, ومحاصرة الفكر المستنير, واضطهاد أصحاب الرأي العقلاني, بدءاً من المعتزلة, مروراً بداعية ( وحدة الوجود) الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي,والحلاّج, والسهروردي, وصولاً إلى طه حسين, الذي أبدى رأياً مختلفاً في أصول الشعر الجاهلي, والشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب (الإسلام ونظرية الحكم), وقائمة متنامية الطول والتنوع , لن تتوقف عند نصر حامد أبو زيد , والشيخ خليل عبد الكريم ,وجمال البنّا وغيرهم.‏

الطامة الكبرى تتمثل في اجتماع السيف والفتاوى الصادرة إما عن الغلو والجمود والتعصب, أو بناء على طلب الحكام والسلاطين, فتخرج مغلفة باسم الحفاظ على الدين القويم والعقيدة الصحيحة, في حين انها تبغي تغطية المصالح السياسية , واستخدام الدين لأغراض دنيوية, بحتة, وإعاقة التفكير الحر, واستيعاب روح العصر ومقتضياته , وإنجازاته العلمية والتقنية الجبارة.‏

وبعد ذلك كلّه يتساءل بعضنا عن علم ودراية غالباً, أو من باب الاستثارة والتحدي, أو من قبيل البراءة وغياب المعرفة أحياناً:( لماذا تخلّف العرب والمسلمون وتقدم غيرهم?!)‏

www.khalaf-aljarad.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية