تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


سورية الجميلة... رسائل الحب الستيني (56)

ثقافة
الثلاثاء 25/11/ 2008 م
أسعد عبود

إلى التي اعترضت قائلة: يا صاحب الرسائل هل من بريد لا يعرف مصدره?

وسألتني: من أين أنت?!‏

على (الكشفة) وقفت أنتظر, لم أكن وحيداً وبصري ينساب نحو الغرب.. لا يشغله الشاطئ الممتد من جبل الأقرع إلى ما بعد بانياس وطرطوس ثم لبنان.. عالم فسيح بلا حدود, وبصرنا جميعاً يتفقد (البوسطة) التي تصلنا بالحدود القصوى لعالمنا المنظور.. مدينة جبلة الساحلية الصغيرة..‏

البحر يرسم حدوداً لا تدرك العين ما بعده.. يقولون: إن القدامى كانوا يميزون شجرات الخرنوب الضخمة من جزيرة قبرص!! في درس الجغرافيا قال الأستاذ: قبرص جزيرة صغيرة وسط البحر وبعد البحر هناك عالم آخر..‏

هكذا ابتعدت حدود قريتنا إلى ما بعد البحر..‏

وأضاف:‏

السفن والطائرات والقطارات تنقل إلى المسافات البعيدة.. ويجب أن تترفعوا عن الركض خلف البوسطة والتعلق بسلمها الخلفي.. ستكبرون وتسافرون ولن تذهب بكم هذه (البوسطة) إلى العالم..‏

امتدت كشفة قريتنا, جابت البحار.. وقال كبيرنا وكان يكره الأستاذ (المعلم) أينما ذهبنا في العالم لا بد من هذه البوسطة.‏

بصراحة كان ركوبها متعة.. لم أكن أهوى التعلق بسلمها الخلفي.. كنت أخاف.. إنما كنت أنتظر أبي الذي يسافر إلى كل مكان ويعرف كل شيء, يوقف البوسطة بإشارة منه, فأصعد إليها متحسساً بمتعة روائح شحومها وزيوتها, وأجلس على عرش حضن أبي.‏

لكل قرية كشفتها.. وعلى دروب الجبل الحجرية (الفظيعة) تسري بوسطات أغرب ما فيها أنها قادرة أن تفعل.. ولا تحدد هذه الكشفة بداية قريتنا ولا نهايتها.. هي بصراحة ليست في بدايتها ولا في نهايتها.. أبو ميهوب كان يعتبرها في وسط القرية, منها يطل على الوديان ويحلم بطيور الحجل.. وكأس ينقله إلى الدنيا كلها دون أن يحرك ساكناً.. لقد أدمن المكوث في هذا المحيط الضيق بعد تجربته للهجرة إلى لبنان..‏

وعاد مكتشفاً أن مركز العالم تحت قدميه في هذه القرية..‏

- ما اسم هذه الجبال البيضاء يا خالي:‏

هذا جبل عكار يسكنه الثلج صيف شتاء.. جبل مبارك لأنه ساعد سيدنا نوح على إيقاف سفينته فبيض الله وجهه.‏

- هذه حكاية?!‏

هكذا يقولون.. ألا ترى الأقرع أجرد لأنه رفض أن يساعد سيدنا نوح..‏

- وماذا بعد الأقرع?‏

تركيا..‏

- وبعدها?!‏

العالم‏

- وبعد عكار?‏

لبنان وبعده العالم..‏

سألوا أبا ميهوب.. لماذا لا تقصد الوديان والجبال الشرقية بحثاً عن الحجل?! قال:‏

- هذا شرق الماعز والبرد والهواء العنيف..‏

الشرق كان جميلاً فعلاً رغم ما ذكره أبو ميهوب.. يحضر الشمس ليبدأ الصباح بعد أن يبتلعها البحر عند الغروب..‏

- ماذا في الشرق?‏

الجبال والشعرة ومدينة حماة والبادية.‏

- ثم ماذا?‏

العالم..‏

في صباح العاصفة الثلجية التي أودت بأبي عبد الباقي وزوجته تحت أنقاض بيتهما مخلفاً عبد الباقي وشقيقه الصغير يتيمان.. حزنت لدموع أمي.. وعجبت لها ترد على أبي خليل وهو يقول: هذه الضيعة الفقيرة المنسية يجب أن نتركها ونهاجر!‏

- إلى أين يا أبا خليل..?! هل يترك أحد قريته?!‏

نتركها كي يتركنا الفقر..‏

- ومن قال لك أن الفقر لا يسكن العالم كله?!‏

الخيبة التي على الوجوه والحزن على موت أبي عبد الباقي وزوجته لم يثن أهل قريتنا عن الفعل..‏

قبروا الضحيتين.. أطعموا أولادهما.. واستمروا في رحلة غيرت معالم الدنيا.. وعجزت أن تغير قلوبهم..‏

جمدت قلوبنا.. قاتلها الفقر وأفعمها الحب..‏

استعير من كاتبة:‏

(بخيوط من حرير نسجنا حكاية للحب والفقر والحياة..‏

وعلى ذاك البساط الحريري تجاوزنا الحدود.. من الغرب إلى الشرق.. من الجنوب إلى الشمال.. من السماء إلى الأرض فكبرت بنا القرية)..‏

وجه محسن لأستاذ الرياضيات المتعلم الهادئ المثقف سؤالاً:‏

- هل تصدق أنهم وصلوا للقمر ياخال..‏

نعم..‏

- أنا لا أصدق.. لا أستطيع أن أصدق.‏

يا محسن لو قلت لك إنهم لم يصلوا للقمر لكنت منافقاً, ولو قلت لي إنك تصدق أنهم وصلوه لكنت أنت منافقاً..‏

قال أبو ميهوب:‏

ألم تعد تكفيك الأرض لخطاباتك الدينية يا أبا معلا..‏

قال محسن:‏

أفكر بالقمر علنا نجد لك ما يكفي من العرق..‏

قال أبو ميهوب:‏

أنا هنا لا أتحرك.. هنا الشمس.. هنا القمر..‏

هنا الحب.. هنا الفقر.. هنا العرق والحجل.. وهنا مركز العالم..‏

كتب في مذكراته:‏

(هل كان أبو ميهوب يدرك ويصدق أن الأرض كروية.. لم يكن ذلك سهلاً على رجل في وضعه.. لكنه كرر مراراً أن موقعه هو مركز العالم.. هذا يعني أنه يعرف كروية الأرض).‏

يضيف في نهاية صفحة المذكرات:‏

(اكتشفت أن معظم أهل قريتنا يقولون بكروية الأرض.. ليس بسبب كثرة البحث والتعلم عندهم.. بل لأنهم يحفظون جواباً على سؤال عن مركز العالم منسوباً للإمام علي بن أبي طالب يقول: مركز الأرض تحت قدمي).‏

إلى متلقي بريدي الستيني.. إلى التي سألت من أين أنت?‏

أنا من مركز العالم..‏

سورية الجميلة.. هل تدركين اليوم لماذا بحر حبي دائم الأمواج.. هل أضناك الحب.! مستحيل‏

a-abboud@scs-net.org‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية