|
آراء امرأة متوارية لا تمسكها من طرف، حضورها مفاجئ وغيابها قاتل، ليست من جنس الإنسان... ربما هي من جنس الشيطان وأحياناً من جنس الملائكة وطوراً الاثنان معاً. امرأة من الغرائب، ربما هي العجيبة الثامنة من عجائب الدنيا السبع.. بخيرها وشرها وجودها مؤثر، قليلة الكلام، لكن كلامها الآسر من عينيها السوداوين، بنظرة واحدة قصيدة شعر، وبغمزة عاجلة تحدث زلزالاً من النوع الذي يشعرك أنك ترتجف هلعاً، يكاد يسقط سقف البيت فوق رأسك.. مخيفة وأليفة معاً، جيدة وسيئة في وقت واحد، غرابتها أن تحيط نفسها بعشرات العشاق ولكنها لا تعشق أحداً، تدخل إلى مطعم الصياد فتشرئب لها الأعناق.... لوقع حذائها ذي الكعب العالي ضربات بيانو بأنامل عازف ماهر إن جلست جلس الجميع، وإن تحركت لاحقتها العيون من كل حدب وصوب.. يشعر المرء الجالس في حضرتها أنها مخلوق مختلف... امرأة من كوكب آخر.. إنها نجمة الصباح تضيء حولها ويمتد نورها إلى النجوم والشمس والقمر. رأيتها في الحلم، في عز جمالها.. أتقدم فتتراجع، أتراجع فتتقدم، توقعني بالحيرة ولا أعرف كيف أتصرف وما اختزنت من كلام نسيته بحضورها.. ومرة رأيتها وقد عقدت العزم على هجرها لعل النار في الضلوع تنطفئ أو يخف حريقها لكن ما إن أمسك بأناملها الرخصة حتى أشعر شعوراً قوياً بعدم التخلي عنها مهما كلفني ذلك من جهد أو إصرار على البقاء معها. هي تعرف ذلك تقول: لا تستطيع أن تتركني مهما حاولت، سحري يعشعش في أعماقك.. فأنت مني وأنا منك.. لكن نتذكر معاً ما غنته أم كلثوم مختاراتها من قصيدة ابراهيم ناجي «الاطلال» أعطني حريتي أطلق يديَّ إنني اعطيت ما استبقيت شيَّ آه من قيدك أدمى معصمي لِمَ أبقيه وما أبقى عليَّ وأقول لها: هذه الأبيات تنطبق عليّ أنا.. ولا تنطبق عليك فقد أدمى حبك ليس معصمي فقط بل قلبي وروحي أيضاً. أجمل ما فيها: عيناها. تجيد لغة العيون كما يجيد الشاعر لغة الشعر، فكلما نظرت إليها ازداد حسنها وتألق جمالها، تلتمع عيونها بدموع كاذبة.. إنها عدة جمال عيونها، تستخدمها لحظة تشاء، دون مشاعر توجب الدموع.. كأن ثمة زر وراء هاتيك الجفون فتكبس عليه عندما تريد فتلتمع دموعها كأنها على وشك البكاء فأتذكر البيت الشهير للشاعر جرير: إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا فالعين، عيناها بالذات، نافذة القلب، من خلالهما تعرف بماذا تفكر وفي أي مشاعر تشعر، بل تعرف دواخل جسدها إن كان بصحة جيدة أم لا، إذ تلعب دوراً مهماً في بلورة الجسد فتختلف الأجزاء الظاهرة والقابلة لأن تبصر بهاتيك العينين الأجزاء التي لا ترى. تقول الأساطير إن حاسة النظر هي الحاسة الأخيرة التي ظهرت عند الإنسان، وهي أيضاً الأكثر تعقيداً مثلاً: هذه الحاسة تزود الجهاز العصبي بأكبر كمية من المثيرات مقارنة بحاستي اللمس والسمع، فالنظر في عيني شيرين هو الحس المميز عندها، النظرة التي استولت بها عليّ في لحظة خاطفة في أقل من ثانية اخترقت ذاتي وكشفت عن جوهري بأنني سأسقط أسير هذه النظرة منذ اللحظة الأولى.. كانت تلك النظرة في مكتب الجريدة هي الاحتكاك الأول والعنكبوت الأول الذي قيدني بخيوطه التي ظننتها واهية فإذا بها خيوط من فولاذ كنت دائماً أحاول ألا أقع بمثل هذا الفخ خصوصاً فقط أصبحت شيخاً فمالي والعشق، وخصوصاً إذا كانت فتاة صبية بعمر نجمة الصباح يهلكني عشقها كما أهلكني فيما بعد.. هي أرادت أن أعلق فعلقت كحشرة العلق التي صارت تمتص دمي كل يوم.. كنت، فيما بعد، متسامحاً إلى أقصى الحدود لأنني علقت وأحببتها. أتذكر لوحة رينوار الشهيرة «النائمة» إذ علّق الناقد سيرولنيك عليها عندما رآها: «أصبح من الإمكان النظر إليها قدر ما أريد من الوقت» فعلاً، ملأت صورها بيتي وعلى هاتفي الجوال التقطت لها نحو ألف صورة في أوقات مختلفة، فما كنت استطيع الاستغناء عن رؤيتها حاضرة وعن رؤيتها صورة، وعلى مدى ما أنا مستيقظ أو استيقظت فجأة من نوم أسرع لأنظر صورتها ملياً فأرتاح من ضجيج نفسي تذكرت بيتين من الشعر لابراهيم بن سهل الإسرائيلي يقول: مرضت ألحاظ عينيك فأمرضت القلوبا ما لقلبي في الهوى ذنب سوى منكم الحسن ومني النظر أو بيت شعر أبو الحسن القيرواني: كلما زدناك لحظاً زدتنا حسناً وطيباً إن لعيني شيرين لغة عجيبة ولها أبواب تفتح وتغلق متى شاءت رقيقة تارة وقاسية طوراً. في كتاب «طوق الحمامة» وفي باب «الإشارة بالعين» هي المرحلة التي تلي التعريض بالقبول، فعند وقوع القبول والموافقة تتم الإشارة بلحظ العين أي: «إنه ليقوم في هذا المعنى المقام المحمود ويبلغ المبلغ العجيب ويقطع به ويتواصل، ويوعد ويهدد، ويقبض ويبسط ويؤمر وينهى، وتضرب به الوعود وينبه على الرقيب، ويضحك ويحزن ويسأل ويجاب، ويمنع ويعطي، فالإشارة بمؤخر العين الواحدة نهي عن الأمر وتفتيرها إعلام بالقبول، وإدامة نظرها دليل على التوجع والأسف.. وكسر نظرها آية الفرح. هذه اللغة، لغة العيون، مارستها معي نجمة الصباح كلها، فصرت أفهمها على الطاير، قال مهيار الديلمي: بطرفك.. والمسحور يقسم بالسحر أعمداً رماني أم أصاب فلا أدري أو بيتان للشاعر بشارة الخوري «الأخطل الصغير» وهما من قصيدة غناها محمد عبد الوهاب يقول الشاعر: قل لمن لام في الهوى هكذا الحب قد أمر إن عشقنا فعذزنا أن في عيننا نظر إنه حب كاد يوصلني إلى الجنون، بل أمرضني وقرّح معدتي فكيف النجاة، يقول الشاعر ناجي، ما ينطبق عليّ بكل هذه التجربة وبه أختم: أيها الشاعر تغفو تذكر العهد وتصحو وإذا ما التام جرح جد بالتذكار جرح فتعلم كيف تنسى وتعلم كيف تمحو أو كل الحب في رأ يك غفران وصفح؟ هكذا غفرت، وصفحت، وتعلمت كيف أنسى وكيف أمحو.. خائفاً أن يتحول هذا الحب إلى كره.. فهناك خيط واه بينهما ليته لا ينقطع. *** خذ بيدي إلى ياسين رفاعية خذني بعيداً إلى مالا نهاية خذني حيث يسير القطار وحيث تبحر السفن وحيث تطير الطائرات لا أريد أن أتوقف في مكان لتكن حياتي رحيلاً في رحيل ليكن موتي رحيلاً في رحيل وإذا سقطت لأسقط بين يديك في رحلتي الأخيرة خذني بعيداً كي أكون قربك حيثما تكون خذني بيدك إلى أعلى ما يعلو أنا هنا يامن تسأل من أنا أنا هنا في الطابق السابع تمر فتفتح لك الشرفات أبوابها يا سيدي مسحورة بك دون توقف كل كلمة قصيدة كل سطر رواية فلمن تذهب أيها الرجل المتعب تعال لا تضع عني سآخذ بيدك حيث تشاء «فما بأيدينا خلقنا تعساء» أمل نور |
|