تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الأعمـــــــش..النَّــــــــــــــــزِق الظـــــــــــريف

ساخرة
الخميس 12-2-2009م
نصر الدين البحرة

قلة قليلة أولئك الرجال، الذين اجتمع في شخصهم عنصران متناقضان: النزق والظرف وهو ضيق العَطَن أي: قلة الصبر، وربما كان بعض الأدباء والشعراء العرب، من هذا القبيل الحطيئة الذي هجا حتى أمه،

وأبو حيان التوحيدي الذي برم بعصره وابن الرومي الذي يكاد يكون مبتكر فن «الكاريكاتير» في الشعر، وكان الأعمش في المقدمة بين هؤلاء الظراف النزقين.‏

سلك ابن الجوزي سليمان الأعمش في الظراف المعدودين، على الرغم من الجد والصرامة اللذين يتطلبهما وضعه الاجتماعي، فقد كان عالماً بالقرآن والحديث والفرائض وروى نحو 1300 حديث (1).‏

قال الذهبي: كان الأعمش رأساً في العلم النافع والعمل الصالح، وقال السخاوي: قيل: لم يُر السلاطين والملوك والأغنياء في مجلس أحقر منهم في مجلس الأعمش مع شدة حاجته وفقره (2).‏

وكانت له طريق خاصة في السخرية والتهكم والرد على الغلظاء والسخفاء، وينقل ابن الجوزي عن جرير (3) أنه قال: جئت الأعمش يوماً فوجدته قاعداً في ناحية، وفي الموضع خليج من ماء المطر - يقصدان مياه المطر كانت متجمعة في حفرة - فجاء رجل فيه سواد، فرأى الأعمش وعليه فروة، فقال: قم وعبّرني هذا الخليج، وجذب الأعمش بيده فأقامه وركبه وقال: «سبحان الذي سخّر لنا هذا، وماكنا له مقرنين» - أي: ماكنا من قبل على تسخيره قادرين -‏

فمضى به الأعمش حتى توسط الخليج، ثم رمى به وقال: «قل ربي أنزلني منزلاً مباركاً، وأنت خير المنزلين.»‏

ثم خرج وتركه يتخبط في الماء.‏

لقد دعي سليمان هذا (الأعمش)، لأن عينيه ضعف بصرهما مع سيلان دمعهما في أكثر الأوقات، وقد سأله أحدهم مرة: مم عمشت عيناك؟‏

قال: من النظر إلى الثقلاء.‏

واستطرد يقول: قال جالينوس: «لكل شيء حمّى، وحمّى الروح النظر إلى الثقلاء.»..وهكذا يبدو أنه كانت له معاناة خاصة مع الثقلاء، فقد نقل عنه أنه قال:إذا كان عن يسارك ثقيل وأنت في الصلاة، فتسليمة عن اليمين تجزؤك - أي: تكفيك (4).‏

ويقدم ابن الجوزي حكاية فيها دلالة واضحة على نزق الأعمش وخفة روحه وضيقه بالأسئلة التي قد يطرحها الناس، دون ضرورة، فقد قال له رجل: كيف بتَّ البارحة؟‏

فدخل الأعمش غرفته فجاء بحصير ووسادة، ثم استلقى وقال: هكذا.. (5)‏

ومن نوادر الأعمش الجميلة، مانقله سعيد الوراق (6) إذ قال: كان للأعمش جار، كان لايزال يعرض عليه المنزل - أي: الضيافة - قائلاً: «لو دخلت فأكلت كسرةً وملحاً فيأبى عليه الأعمش فعرض عليه - الضيافة نفسها - ذات يوم فوافق ذلك جوع الأعمش، فقال: مُرَّ بنا.‏

فدخل الرجل منزله فقرَّب إليه كسرة وملحاً - كما قال تماماً -‏

..وفي هذه الأثناء، سأل سائل صدقة، فقال له رب المنزل: بورك فيك.‏

فأعاد عليه المسألة، فقال له: بورك فيك.‏

فلما سأل الثالثة قال له: اذهب..وإلا خرجت عليك بالعصا.‏

وهنا نادى الأعمش السائل قائلاً: اذهب ويحك، لا..والله مارأيت أحداً أصدق مواعيد منه، هو منذ سنة يعدني على كسرة وملح، ولا..والله مازادني عليهما.‏

الحواشي :‏

(1) الأعلام - خير الدين الزركلي - المجلد الثالث - ص 135.‏

(2) المصدر نفسه: «هو سليمان بن مهران الأسدي بالولاء - أبو محمد الملقب بالأعمش، تابعي، مشهور أصله من بلاد الري، منشؤه ووفاته بالكوفة 681 - 765م».‏

(3) أخبار الظراف والمتماجنين ابن الجوزي - ص 29 - 30.‏

(4) المصدر السابق - ص 30.‏

(5) المصدر نفسه - ص 30.‏

(6) المصدر السابق - ص 31.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية