|
اقتصاديات ودائماً تواجه مسألة توزيع الدخل العديد من التناقضات: التناقض بين القيم المجتمعية وبين الحاجات, أي هل يتخلى المجتمع متمثلاً في الدولة عن التدخل في آلية التوزيع تاركاً الأمر لآلية السوق العفوية تحت شعار الليبرالية ودون النظر إلى توفير الحد الأدنى من المعيشة لكل أفراد المجتمع. التناقض بين ضرورة تحسين الإنتاجية وبين العدالة الاجتماعية أي هل تصح التضحية بالعدالة الاجتماعية وتعريض قسم كبير من قوة العمل إلى البطالة والعوز من أجل رفع مستوى الإنتاجية وكسب معركة التنافسية, والتناقض بين الأمان والتقدم, كل مجتمع اقتصادي يتطور ويتقدم في شروط عدم الاستقرار. والابتكار يشكل القوة المحركة للتقدم ولكن كل ابتكار محفوف بالمخاطر ولهذا إذا لم تتوفر الشروط الموضوعية للمبتكرين المخاطرين التي تسمح لهم بجني أرباح تزيد عن متوسط الربح فإنهم لن يقدموا على المخاطرة أو على الاستثمار في البحث والتنمية. من هنا ظهرت الحاجة إلى قوانين حماية الملكية من أجل التحفيز على المخاطرة سعياً وراء تحقيق أرباح أكبر. والحكومات هي المسؤولة عن اعتماد السياسات القادرة على التوفيق بين مصالح مختلف مكونات المجتمع بحيث تكون في خدمة التنمية والتقدم الاجتماعي. ويبقى السؤال الأهم: هل يمكن تحقيق النمو (التنمية) المستدامة دون مراعاة عدالة توزيع الناتج بين أصحاب الأجور ومالكي وسائل الإنتاج!! تختلف سياسات توزيع الدخول من نظام اقتصادي إلى آخر تبعاً لاختلاف القوى المسيطرة في المجتمع, في اقتصاد السوق ينمو التوزيع ليكون عفوياً مع الحد الأدنى من تدخل الدولة لإعادة التوزيع, بحيث يشكل التدخل ضمانة لضبط التحركات الاجتماعية في حدود السلامة مع توفير الحد الضروري لإعادة تجديد الإنتاج الاجتماعي وتحقيق التطور التقني. في هذه الحالة يترك لآلية السوق تحقيق التوزيع العفوي في حدود السلامة المجتمعية, وفي اقتصاد التخطيط المركزي يتم توزيع الدخل حسب الخطة لتوفير الحد الأدنى من الحاجات والعدالة والقضاء على البطالة ولكن التوزيع في الاقتصادات المخططة عجز عن رفع مستوى الإنتاجية وفشل في تحقيق التقدم المنشود. أما في اقتصاد تعددي (قطاع عام, قطاع خاص, قطاع مشترك وآخر تعاوني), اقتصاد تدخلي موجه يسعى إلى الانتقال إلى تفعيل آلية السوق (اقتصاد السوق) دون التخلي عن سيطرة القطاع العام أو دون المساس بامتيازاته تواجه مسألة اختيار سياسة سليمة في توزيع الدخول صعوبات كثيرة في حل التناقضات المذكورة أعلاه. يضاف إلى ذلك أن تدني مستوى الدخل الوطني ونصيب الفرد فيه يفرض مواجهة معضلة الاختيار بين تشجيع الادخار (الاستثمار) واشباع الحاجات الاستهلاكية بالحد الأدنى المقبول لكل أفراد المجتمع. فزيادة الادخار على حساب الاستهلاك تقود إلى الركود, وزيادة الاستهلاك على حساب الادخار تؤدي إلى تخفيض القدرة على الاستثمار وبالتالي تخفيض الإنتاج, ما يقود إلى زيادة الاستيراد وهروب القوة الشرائية أو اللجوء إلى الاقتراض الخارجي لتمويل الاستثمارات ما قد يوقع في فخ المديونية, أو يضطر البلد إلى فتح اقتصاده أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة وما يترتب على ذلك من تصدير الأرباح إلى الخارج واضعاف التراكم الرأسمالي في الداخل, والحل الأمثل هو في اعتماد سياسة عقلانية في توزيع الدخول تأخذ في الحسبان المنطلقات التالية: -ضرورة تحقيق نمو في الدخل الحقيقي وليس الاسمي فقط بحيث تتزايد باستمرار القدرة الشرائىة لأصحاب الدخول وخاصة أصحاب الدخل المحدود من أجل زيادة الطلب لحفز الاستثمار من جهة ورفع إنتاجية العمل من جهة أخرى. - ضرورة أن تتساوى الزيادة في الأجور مع ارتفاع إنتاجية العمل بحيث يتحقق دائماً للمشروعات, عامة كانت أم خاصة لا فرق في ذلك, فوائض اقتصادية لتغذية استثماراتها وزيادة قدرتها على تمويل انفاقها في البحث والتنمية, الحامل الوحيد للابتكارات والتقدم التقني بمعنى آخر الابتعاد عن الايديولوجيا والالتزام بالضرورات العلمية في معالجة مسألة توزيع الدخل. - تخفيض أسعار الضريبة التصاعدية على الشرائح العليا من الدخل لزيادة التراكم الرأسمالي وتنشيط الاستثمار(هذا بفرض تخفيض مستوى التهرب الضريبي وزيادة الميل إلى الاستثمار في الرأسمال المخاطر). من شأن هذا أن يؤدي إلى زيادة مستوى التشغيل وتوزيع المزيد من الدخل فلا تتأثر حصيلة الخزينة من الضرائب ولا نصيب الأجور في الدخل, وتتسع السوق ويرتفع الحافز على الاستثمار. - رفع معدلات الاهتلاكات المعمول بها بما يسمح للمستثمرين الناجحين سرعة إطفاء رؤوس أموالهم المستثمرة واستبدال تقانات عصرية متقدمة بالتقانات القديمة حتى يتمكنوا من المنافسة في السوقين الداخلية والخارجية. جميع الدول الصناعية القديمة والحديثة لجأت إلى هذه السياسة لدفع عملية التقدم التقني وزيادة قدراتها التنافسية. ونعتقد أن اعفاء مبالغ الأرباح, مهما بلغت كمياتها اعفاء تاماً من الضريبة إذا أعيد استثمارها خلال مدة محددة من الزمن (سنتين أو ثلاث سنوات مثلاً) سيشكل حافزاً كبيراً لتشجيع الاستثمار. ولكن يجب أن تستوفي وزارة المالية عن الأرباح المعفاة من الضريبة, إذا لم يتم استثمارها خلال المدة المحددة, الضرائب التي كانت تستحق عليها بتاريخ تحققها مع غرامات عالية تتجاوز في كل الحالات معدلات التضخم المسجلة في الاقتصاد الوطني مع معدل الفائدة السائد في السوق المحلية وذلك لمنع تلاعب المشروعات في موضوع تسديد الضرائب في مواعيدها. إن السير باتجاه التحديث والتطوير يقتضي اعتماد سياسات محفزة للمشروعات لتتحمل المخاطرة (التضحية ببعض السلامة) سعياً لتحقيق المزيد من الأرباح والعمل على تحقيق التقدم التكنولوجي. كما أن عدالة توزيع الناتج تزيد في الطلب الاستهلاكي على السلع والخدمات وتسهم بتوسيع السوق الداخلية ما يشكل تحفيزاً على الاستثمار وزيادة النمو. ولعل النقطة التي لا تولى اهتماماً كافياً في مسألة عدالة التوزيع هي أثر هذه العدالة وزيادة نصيب الأجور في الناتج على زيادة إنتاجية العمل, العامل الأكثر أهمية في رفع معدلات النمو وزيادة الحجم الناتج من عوامل الإنتاج المتاحة. إن انخفاض إنتاجية العمل يرجع في قسم غير قليل منه إلى تدني المستوى الصحي للعامل من جهة ضعف القدرة على العمل من ناحية وكثرة الغياب المرضي من ناحية أخرى. إن مقارنة سريعة لنسب توزيع الدخل بين عوائد الملكية والأجور في سورية مع الدول الصناعية المتقدمة توضح جزئياً سبب تدني إنتاجية العمل في الاقتصاد السوري. في الدول الصناعية المتقدمة تصل حصة العمل في الناتج إلى 65-70% وفي بعضها تتجاوز 80% بينما تصل في سورية, حسب تقرير هيئة تخطيط الدولة إلى 32,1% فقط ووفقاً لحسابات أجريناها, مع حساب أجر المثل لجميع العاملين لحسابهم وأفراد أسرهم واعتبار ذلك جزءاً من نصيب الأجور, إلى 41% فقط!! *وزير سابق |
|