|
شؤون سياسية من خلال هذا البلد الصحراوي للحفاظ على مصالحها الإستراتيجية في هذه المنطقة الحيوية ولكسب المزيد من المنافع الاقتصادية، في ما يشبه التكرار أو حالة الاستنساخ لما بات يعرف بالتجربة الأميركية الفاشلة في أفغانستان. غير أن الفارق الوحيد بين التجربتين هو أن أميركا ورطت معها دول حلف الناتو في حربها ضد أفغانستان لتتقاسم معها أعباء وتكاليف هذه الحرب الباهظة في حين ذهبت فرنسا بصلفها وغرور رئيسها ضعيف الخبرة لتغرق وحيدة في رمال مالي ولاسيما أن معظم دول العالم اكتفت بإصدار بيانات دعم لباريس في حربها الجديدة دون أن تبدي عزما على المشاركة فيها باعتبارها خطوة غير محسوبة النتائج..!! كان من المنتظر أن يبدأ التدخل الفرنسي في مالي في آذار القادم ولكن نجاح التنظيمات المسلحة الأصولية المحسوبة على تنظيم القاعدة في تحقيق انتصارات ضد الجيش المالي في مناطق شاسعة في شمال البلاد “أزواد” سرّع من التدخل الفرنسي ودفع بباريس لاستباق الموعد المضروب وتغيير خطة التدخل المرسومة، وكان السيناريو الفرنسي يقتضي هجوما جويا دون وجود عسكري على الأرض كما جرى في ليبيا قبل نحو عامين وتقديم معلومات استخباراتية للجيوش الأفريقية التي تعمل على الأرض. لكن التطورات على الأرض اختلفت حيث يشارك الطيران بضرب معاقل المقاتلين الاسلاميين في مالي الذين يتوزعون بين تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي وجماعة أنصار الدين وجماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، إلى جانب نحو 1700 عسكري فرنسي على الأرض من المتوقع أن يرتفع عددهم إلى 2500 جندي في القريب العاجل، وهذا العدد مرشح للزيادة مع استمرار المعارك وتطورها في أراض صحراوية شاسعة تقترب مساحتها من نحو مليون كيلو متر مربع. من يراقب تطورات وتسارع الأحداث في مالي يرى أن فرنسا قد انزلقت فعليا نحو تدخل عسكري واسع وطويل الأمد في هذا البلد، بحكم المساحة الكبيرة التي يسيطر عليها المسلحون في شمال مالي، وفي ظل الأزمة السياسية الكبيرة التي تعيشها البلاد. وكما جرت العادة فإن أي تدخل عسكري للدول الاستعمارية في أي بلد من البلدان يجري تبريره بطريقة أو بأخرى، والتدخل الفرنسي في مالي هذه المرة جرى تبريره بمساعدة الحكومة المالية التي طالبت به، وبالحيلولة دون قيام كيان إرهابي يهدد أمن أفريقيا وأوروبا في هذه المنطقة، مع تناسي مساهمة فرنسا القوية في قلب نظام الحكم في ليبيا لصالح قيام كيان إرهابي يوزع شروره في كل الاتجاهات حيث تقوم التنظيمات الإرهابية التي استولت على الحكم في ليبيا بإرسال المقاتلين “الجهاديين” والسلاح إلى مناطق كثيرة منها سورية ومصر وتونس وقبل أيام إلى الجزائر وحادثة عين أميناس ومأساة الرهائن خير شاهد على ذلك، ولكن واقع الحال أن فرنسا لاتتدخل في مالي لكي تساعد الحكومة المالية ولا لمحاربة الإرهاب، فهي تدعم الإرهاب الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني كما تدعم التنظيمات الإرهابية التي تحارب الشرعية والمؤسسات والشعب في سورية، بل تدخلت في مالي تحت تأثير أطماعها ومصالحها الاستعمارية في هذا الجزء من أفريقيا، فمصالح فرنسا تكمن في جوار مالي وخاصة في النيجر حيث تستثمر فرنسا أهم مناجم اليورانيوم عماد صناعتها الحديثة وقوتها الضاربة. كما يأتي التدخل الفرنسي في مالي لحماية المصالح الفرنسية في موريتانيا والجزائر وبنسبة أكبر في السنغال وساحل العاج، وليس بعيدا عن الذاكرة التدخل العسكري الفرنسي في ساحل العاج قبل أكثر من عامين للإطاحة بحكم الرئيس العاجي لوران غباغبو، فهي تتدخل بحكم مصالحها إما لتقوية نظام يخدمها أو للإطاحة بنظام لا يعجبها وهي سياسة استعمارية أميركية اشتهرت كثيرا في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن مالم تحسبه فرنسا أن مثل هذا النوع من الحروب قد يبدأ بعملية عسكرية محدودة ولأغراض معينة ثم يتطور إلى تورط عسكري واسع ومتزايد وطويل الأمد فهل تستطيع فرنسا بقليل من المساعدة الأفريقية تحمل نتائج هذه الحرب وهي تشكو ضائقة مالية ووضع اقتصادي هش وتذمر شعبي أشبه بالجمر تحت الرماد. هناك ثمة إجماع بين المراقبين بأن فرنسا قد تورطت في نزاع طويل الأمد وغير محسوب النتائج في مالي كما هو حال الولايات المتحدة في أفغانستان، حيث جاءت أميركا للقضاء على تنظيم القاعدة في هذا البلد بعد أحداث 11 أيلول 2001 تحت شعار محاربة الإرهاب فتورطت في صراع مرير مع الشعب الأفغاني ومع حركة طالبان الأفغانية وما زال هذا الصراع مستمرا حتى اليوم دون أن يحقق نجاح يذكر في محاربة الإرهاب أو يضعف تنظيم القاعدة، ولاشك أن فرنسا المستغنية عن دروس الحرب الأفغانية وهي المشاركة فيها ستكرر غرق الأميركيين في أفغانستان بغرق مماثل في رمال مالي لأن أمامها صراع على ثلاث جبهات، الأولى هي أن الجماعات المتطرفة تمتلك مرونة التحرك من منطقة إلى أخرى ولديها مخازن أسلحة حصلت عليها من ليبيا بعد الإطاحة بحكم القذافي، وأما الثانية فتتمثل في أن الجماعات المتطرفة لها امتدادات في دول الجوار تمكنها من التحرك السريع بمساحات كبيرة والاختباء من الضربات الجوية كما حدث في عين أميناس الجزائرية، وأما الثالثة فتتمثل في قدرة هذه الجماعات في الوصول إلى قلب فرنسا لتنفيذ أعمال إرهابية موجعة كما حدث في مدينة طولون العام الماضي، وهذا ما جعل العديد من الدول الأوروبية تحجم عن المشاركة في حرب فرنسا الجديدة خوفا من تعرضها لضربات انتقامية.. واقع الحال يؤشر إلى معركة طويلة لن تكون نهايتها كما بدايتها فدخول الجحيم ليس كما الخروج منه، وفرنسا لا تمتلك قوة أميركا كي تتحمل بمفردها حربا طويلة دون مساعدة دولية، ولعل وضعها اليوم أشبه بالمثل القائل “على نفسها جنت براقش”..؟!! |
|