تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«كل ماسات السماء»..روايــةٌ متعـة الكتابـة

فضاءات ثقافية
الأحد 27-1-2013
لو أردنا نصح القارئ العربي برواية فرنسية واحدة من الموسم لاخترنا بلا تردد رواية كريستوف كلارو «كل ماسات السماء» التي صدرت عن دار «أكت سود» الباريسية. تشكّل هذه الرواية تحفةً أدبية،

إن على مستوى أسلوبها أو حبكتها أو طريقة معالجتها لمواضيعها الكثيرة. وكانت صدرت عام ٢٠١٠ رواية لكلارو نفسه بعنوان «كوزموز» وأعاد فيها إحياء شخصيات قصة «ساحر أوز» بهدف عبور القسم الأول من القرن الماضي وتسليط الضوء بعبقريةٍ نادرة على عنفه ومجازره.‏‏

وفي روايته الجديدة، يتابع كلارو سفره فيعبر بنا العقدَين اللذين يفتتحان القسم الثاني من القرن العشرين. ولكن هذا لا يعني أن هذا النصّ هو تكملة لروايته السابقة، بل هو كتاب مختلف، رحلةٌ هلسية داخل عالمٍ جديد تطبعه الحرب الباردة وفتح الفضاء والاختبارات النووية ولكن أيضاً الثقافة الأميركية المضادّة وجيل «البيت» والحركة الهيبيّة التي لن تلبث أن تخرج من الولايات المتحدة لتكتسح أوروبا حاملةً في جعبتها المخدّرات والتحرّر الجنسي.‏‏

القصّة التي يسردها كلارو ترتكز على حدثٍ حقيقي وقع عام ١٩٥١ في قرية بون سان إسبري الفرنسية حيث انتشر وباءٌ غامض أدّى إلى حالات جنونٍ هلسي جماعي. وبسرعة، تبيّن أن الوباء هو في الواقع حالة تسمّم تعرّض لها أبناء القرية على أثر أكلهم خبزاً خُلطت عجينته بفطرٍ سام ينبت على حبوب الجاودار ويدخل في تركيبة مخدّر أل. أس.دي. ووفقاً للصحافي الأميركي هانك ألباريلّي جونيور، تقف خلف هذا الحدث وكالة الاستخبارات الأميركية التي نعرف اليوم أنها اختبرت هذا المخّدر على نطاقٍ واسع آنذاك واهتمّت عن قرب بقدرته على إخضاع الذهن ضمن برنامج عُرف تحت تسمية Mkultra‏‏

ورواية كلارو ليست تاريخية بالمعنى التقليدي للكلمة لعدم احترامها التسلسل التاريخي للأحداث التي تقاربها. فمن عام ١٩٥١ في قسمها الأول، نقفز فجأة إلى عام ١٩٦٩ في قسمها الثاني، قبل أن يسترجع أنطوان ذاكرته في القسمَين الأخيرَين وينطلق في سرد ماضيه الخيالي كخبّاز على متن غوّاصة ثم كجندي في الفيلق الأجنبي للجيش الفرنسي؛ سردٌ يسمح للروائي بالتوقف، ولو سريعاً، عند حرب الجزائر والاختبارات النووية الفرنسية في صحراء هذا البلد، بينما تسمح أحداث حياة لوسي وأسفارها له بمقاربة حرب الفيتنام أو انطلاقة الثورة الهيبيّة في كاليفورنيا أو تسابُق الأميركيين والروس على بلوغ القمر.‏‏

لكن خطاب الرواية يتركّز خصوصاً على الثقافة الأميركية المضادّة التي انبثقت من رحم المخدّرات والتحرّر الأخلاقي، وبالتالي على المخدّرات كعامل سلطة بامتياز وشكل استلابٍ وعبودية جديد لن تلبث الولايات المتحدة أن تصدّره إلى أوروبا، وفرنسا تحديداً، بعد استخدامه بشكلٍ واسع داخلها لتنفيس غضب الجيل الشاب على سياساتها. ولهذه الغاية، شيّد كلارو نصّه بإحكام وجعله يتّبع سرداً غير خطوطي يتقدّم ويعود إلى الوراء مراراً، كما ضمّن كل قسم من أقسامه الستة فصولاً ثلاثة تمنح الرواية إيقاعاً ثلاثياً، كي لا نقول ثالوثيّاً، من دون أن ننسى استحضار عناوين هذه الفصول في كل مرّة حروف مخدّر أل. سي. دي الثلاثة.‏‏

وكالعادة، اشتغل كلارو كثيراً على لغته في هذا النصّ مستخدماً كل الوسائل الموضوعة في تصرّفه، كابتكار عباراتٍ جديدة واللجوء إلى مفرداتٍ علمية وأخرى نادرة أو غير فرنسية أو مختصَرة، وإخراج بعض الكلمات من سياقها أو تفكيكها وبعثرة أجزائها أو التلاعُب الماكر بتعدّد معانيها أو بالتباسها، مما سمح له بنسج شبكة أصداءٍ مثيرة.‏‏

وبواسطة هذا النوع من الكتابة سعى كلارو إلى بلوغ إدراكٍ هلسي للعالم وللذات، كما لو أننا تحت تأثير المخدّر؛ إدراكٌ يتجاوز الرؤية، حسّي للغاية وبصري بالدرجة الأولى بإشراقاته وتشوّهاته وألوانه، ولكن أيضاً سمعي وشمّي لاختلاط الأصوات بالألوان والروائح.‏‏

وخلافاً لما كتبه هنري ميشو, وألدوس هاكسلي, وويليام بوروس, وأنتونان أرتو تحت تأثير المخدّرات، يُكهرب كلارو جُمله ويشحنها بطاقة مزعزعة، ما يجعلها قادرة على استحضار عوارض استهلاك الال.أس. دي، وخصوصاً ذلك التسارُع في التفكير وتلك الازدواجية المستشعَرة وذلك الإحساس بمغادرة جسدنا.‏‏

باختصار، رواية تُسقط ألف صورة بالدقيقة تُكلّم شبكية العين قبل أن تبلغ الدماغ أو القلب، وبالتالي تستحضر بكثافة مضمونها لوحات جيروم بوش، وبمراجعها المموَّهة (subliminales) كتابة رامبو. روايةٌ تغوص في متعة الكتابة حتى الدوّار وتسهّل على قارئها فتح جناحَيه لعبور «فصلٍ من الجحيم» بنشوةٍ بالغة.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية