|
ثقافة كانت اصطناعية ولازالت تُعتبر كذلك من قِبل سكان المنطقة.. نعم، فرنسا وانكلترا هما من فصلها بشكلٍ تعسفي، وربما قطعَ روابطها العائلية وعلاقاتها التجارية، وتعارضَ بشكلٍ صارخ، مع نمط الحياة لكثيرٍ من سكانها».
إن قائل هذه الكلمات، هو الأديب «جون دوس باسوس» الأميركي الذي برعَ في «الولايات المتحدة الأميركية» بثلاثيته التي فضحَ عبرها، التناقض الذي تعيشه الفئات المتسلطة في هذا البلد. تلك الفئات التي رأى بأن لا شيء يجمعها إلا الانتماء للرأسمالية التي تسعى إعلامياً للتستُّر على هذا التناقض، ودون أن تتمكن من سترِ عريِّ واقعها المُزري. الواقع الذي أغرق الكثير من الفئات، بما يدحضُ مزاعم من يدَّعون بأنها تعيش بوفرة وتكافؤ للفرص وديمقراطية. نعم، هذا ما فعله «باسوس» وكغيره من الأدباء الأميركيين الذين اكتشفوا ما اكتشفه في مجتمعٍ تسوده أجواءُ الإحباط والخيبة والفشل، ويهيمن عليه الخداع والأطماع والتكالب والأنانية. الأنانية التي قتلت في الإنسان كل القيم، والتي أدَّت لتهميش وإفقار وانهيار مجتمع العمال والفلاحين، وللانجذاب إلى الفردية المتسلطة، وغير المتصالحة إلا مع نظمها وأفكارها ومصالحها الاقتصادية والسياسية. هذا عن رأي «باسوس» بالولايات المتحدة الأمريكية.. بلده الذي التمس مقدار أطماع المتصارعين فيه، ومن أجلِ مصالحهم التي همَّشوا لتحقيقها، واستهدفوا لنيلها، المظلومين والمسحوقين من كافة أنحاء العالم، وبالأخص من كانوا ينتمون للأمة العربية. إذاً، لم تصدر الكلمات التي أوردناها في المقدمة إلا عن أديبٍ مثلما آلمه تكالب الدول الاستعمارية على الدول العربية، آلمه أيضاً، تكالبُ بلاده على خيرات وثروات الفقراء والمكافحين. آلمه ذلك فكتبهُ في «أورينت اكسبريس» الكتاب الذي أصدره بعد أن رأى من الحرب العالمية الأولى، ما اضطرّه للإعلان صراحةً بأنها: «أكبر خدعة سياسية راحت ضحيتها البلدان العربية.. خدعة لعينة إلى أبعد الحدود.. خلايا سرطانية ضخمة تتغذى على الأكاذيب»؟ لا شك أن «باسوس» لم يعلن رأيه بهذه الصراحة وهذا الوضوح، وضمن كتابٍ هو أقرب مايكون إلى أدب الرحلات، إلا بعد أن جاب البلدان العربية واكتشف مقدار ماكذبت بلاده وادَّعت، وإلى أن باتت بحقِّ الدولة الكاذبة والمعتدية. اكتشف ذلك، بعد أن أيقن بأن بلدهُ قد خدعته كما خدعت سواه، وبادعائها أن ما تقوم به جهود خيرية لاحروب تدميرية، وديمقراطية لا دموية.. أيضاً، حرية لا فردية وأنانية.. إنه ما أيقنه، وكان السبب الأكبر لترحاله وتنقّله. السبب الذي دفعه للتطوع وخوض تجربة الحرب العالمية الأولى. الحرب التي عمل فيها كسائقٍ لسيارة إسعاف، و التي كانت السبب الأخطر لشعوره بالاغتراب عن مجتمعه وبلده وانتمائه. الشعور الذي أدى إلى ظهور نزعة التمرد لديه. هذا التمرد الذي تفاقم بعد أن أذهله ما اقترفه الجنود في هذه الحرب، ومن كوارث وحرائق وتدمير وترسيخ للجهل.. من تعذيبٍ وتمزيقٍ وتشويهٍ وإحراقٍ وقتل. كل هذا، جعله يشعر بالسخرية، وبمقدار غفلةِ من لا يرى الفرق بين المثاليات المنتشرة ادِّعاءً وكذباً وافتراءً, وبين الواقع الموجود حقيقة. لكن، ولأنه كان يرى بأن دوره الإبداعي يَفرض عليه تعرية القبحِ والبشاعة والظلامية التي تعيق كل تقدم أو فكر إنساني، انسلخَ عن كلِّ ما لاينتمي أو يقف أو يُساند و يؤيّد دوره، ليقرِّر بعدها، الرحيل بحثاً عما يعيد لكلماته معناها، ولأهدافه مبتغاها، ولأسئلته أجوبة أيدتها الشواهد التي عاينها بعد أن نطقت بشكواها. أخيراً يتفرّغ للكتابة. كتابة الحقائق التي قدمها إليه من التقاهم وسألهم وتلمّس عن قرب حالهم وحياتهم وأحلامهم وإخفاقاتهم وآلامهم ومعاناتهم. أولئك الذين كتبهم بعد رحلته إلى البلدان العربية.. الرحلة التي ولأنها عرَّفته على مالدى العرب من ثقافةٍ وحضارة ووداعة، اشمئز من بلده.. الولايات المتحدة الوهمية. |
|