|
ملحق ثقافي لا يوجدُ رأيٌ قطعيٌّ في نشأة اللغة وتاريخيتها، فمنهم من عدَّ اللغةَ حالة خَلْقية خُلقت مع آدم وهي علم لدنيّ إلهيّ ربّاني (وعلّمَ آدم الأسماء كلّها) فكلّم الله آدمَ بلغةٍ. وبالمطلق أن آدم رد باللغة ذاتها. وبعضهم قال إنّها محدثة كما ذكرنا سابقاً من خلال حاجة الإنسان المطلق إلى التعبير للآخر عمّا يجول في خاطره من حالات هلعٍ ورعب وخوف أو حالات الفرح والغبطة والسرور، فجاءت لتعكس تلك الحيوية العقلية والذهنية لتلك الجماعة التي بدأت بتسمية الأشياء بمسميات اتُّفِقَ عليها.
ومنهم من قال: إنها منعكس لمجمل أصوات أهل المكان من كائنات مرافقة (طيور – حيوانات) وبعض أصوات الظواهر ومظاهر الطبيعة (رعد – برق -..الخ). كما أنه لا يوجد رأي قطعيّ جامع مانع في كيفية وطريقة وأسلوب نشأة اللغة ووصولها إلى ما وصلت إليه من كمال واكتمال، إلا أن أهل الاختصاص أجمعوا ومن بعد فك الرموز المنتشرة هنا وهناك لمئات لا بل آلاف الرقم الطينية وتحليلها، أن أصلها مصري قديم وأن سيناء كمنطقة جغرافية أول من عرف أهلها الحرف والكتابة، ولكن هل هي مقطعية أو رمزية أو صورية؟ كما أن العلماء قالوا في نشأة الأبجدية غير قول. منهم من أكد على فكرة أنها مصرية الأصل بعد الموازنة بينها وبين صور الأبجدية الفينيقية، فقالوا: إن الأبجدية اشتقت من المصرية القديمة بعد أن توسطتها الكتابة السينائية ومنهم جرجي زيدان الذي قال مؤكداً، في كتابه ذائع الصيت والمعنون بـ (الفلسفة اللغوية) والصادر بطبعته الأولى عام 1987- في بيروت، إنها اشتقت من الخط الكريتي، ومنهم من أرجع نشأتها إلى الخط الحثي القائم على الصور. ومنهم من ذهب إلى نشأتها عن الخط الإسفيني ولا سيما بعد أن كشف سنة (1929م) في رأس شمرا عن خط أبجدي إسفيني مستمد من الخط المقطعي الإسفيني. إلا أن جرجي زيدان يعود ويقول في المصدر نفسه: على الرغم من أن العلم الحديث لم يقطع بنظرية من هذه النظريات، ولكن مما لاشك فيه أن هذه الآراء كلها تلتقي على اختلافها في أن الفينيقيين هم أصحاب الأبجدية المعروفة، وعنهم انتشرت في العالم. وأما زمن نشأتها فيحدد بعد القرن الرابع عشر قبل الميلاد وقبل القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وأما الدكتور جمال الدين الخضور فيرى أن لا تاريخ يبدأ أو بدأ قبل التاريخ العربي والذي مرّ بأربعِ مراحل كما بيَّن، فيقول: التاريخ العربي مرّ بداية بمرحلة العروبة البدئية الأولى والممتدة في الآلاف السابقة لفجر التاريخ كما أكدتها التوضعات المادية الموضوعية والحيثيات الأركيولوجية المكتشفة بنموها المتوازي والمتشابه إن لم نقل المتطابق، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك نمواً حضارياً واحداً يشمل كل الجغرافية العربية المعروفة اليوم. أما المرحلة الثانية فتمتد حتى بداية التدوين الكتابي التصويري – الرمزي – التركيبي – مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد والذي سميناه / المرحلة العروبية لما قبل تاريخية الخاصة. أما المرحلة الثالثة فنسميها الصعود الحضاري العروبي الأول والذي يمتد حتى سقوط بابل على يد كيرش قائد الغزو الفارسي لبلاد العرب عام 539ق.م. أما المرحلة الرابعة والتي تمتد من سقوط بابل في نهاية الألف السادس قبل الميلاد وحتى الرسالة المحمدية، والتي تميزت بالانتشار العربي المعرفي والثقافي والأناسي والحضاري، كما تميزت بالتطور في البنية المعتقدية التوحيدية وتطورها على ظهور المسيحية وانتهاء بقيام الحضارة العربية البديلة عن جغرافية الاحتكاك مع الغزاة. وتتمة للحديث في أصل اللغة ونشأتها وتاريخيتها، لابد أن نأتي إلى ما قُسِّمت وفقه من طوائف ومجموعات بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هذا أو ذاك من أهل الاختصاص إلا أن ثمة إجماعاً عاماً على أن اللغة مقسمة حسب نموها وارتقائها وسيرورتها التاريخية الاجتماعية إلى لغة مرتقية ولغة غير مرتقية مستفيدين ومستندين إلى ما أورده جرجي زيدان في كتابه فلسفة اللغة، إذ يرى أن اللغة غير المرتقية تتضمن أدنى اللغات بياناً وأبسطها ألفاظاً، منها اللغات الزنجية التي يتفاهم بها قاطنو جنوبي أفريقيا، والأمريكية التي يتكلم بها هنود أمريكا، والصينية، والحامية ومنها المصرية القديمة والحبشية القديمة والبربرية. أما اللغة المرتقية فهي لغات العالم المتمدن، وتقسم إلى متصرفة وغير متصرفة؛ فغير المتصرفة تشمل اللغات الطورانية على سبيل المثال (التركية والمنغولية)، أما المتصرفة فتقسم إلى قسمين أو طائفتي:ن 1 - الطائفة الأولى الآرية: أو الهندية الأوربية وتدعى أيضاً اليافثية نسبة على يافث بن نوح وتقسم إلى: (جنوبية) وهي لغات جنوبي أسيا منها السنسكريتية وفروعها الهندية والفارسبة والأفغانية والكردية والبخارية والأرمينية والأستية. و(شمالية) ومنها لغات أوروبا وتقسم إلى كلتية، ومنها اللغات المستعملة في جزائر بريطانيا إلا إنجلترا. وإيطالية ومنها اللاتينية وفروعها لغات فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وهيلينية ومنها اليوناني القديم والحديث، ووندية ومنها لغات روسية وبلغاريا وبوهيميا. وتيونية وتتضمن لغات إنجلترا وألمانيا وهولندا والدانمارك وآيسلاندا. 2 – الطائفة السامية نسبة إلى سام بن نوح: اجمع أهل الاختصاص على أن اللغات السامية هي الأرقى بياناً لوجود اللغة العربية بينها والأوسع نطاقاً وأدقها تعبيراً، وتمتاز بكونها الحافظة لأقدم التواريخ، أعني التوراة المكتوبة بالعبرانية. ومن المعلوم أن التمدن نشأ أولاً بين المتكلمين بها كالبابليين والأشوريين والفينيقيين وغيرهم. وهي تقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 – الآرامية: وفرعاها السريانية والكلدانية، وهي لغة بابل القديمة الباقية آثارها مكتوبة نقشاً على بقايا بابل وآشور بالأحرف الاسفينية والأنبارية. والكلدانية هي هذه بعد أن لعبت بها أيدي الزمن فغيرت بعض ألفاظها. وكُتب بها بعض أسفار العهد القديم كسفر دانيال وغيره، فكأن اللغة البابلية القديمة دعيت في أول أمرها آرامية ثم تغيرت قليلاً فدعيت كلدانية ثم وقع فيها تغيير آخر فدعيت سريانية وحصل بعض التنوع في حركاتها، فحسبت لغتين: سريانية غربية وسريانية شرقية، وقد حفظت اللغة الآرامية بعض التواريخ القديمة منقوشة على بقايا بابل وآشور. والسريانية حفظت الكتاب المقدس الذي ترجم إليها في الجيل الثاني بعد المسيح. 2 – العبرانية: وقد امتازت هذه بحفظها التاريخ القديم وبأن الناطقين بها أوضح الأمم منشأ. ومحور جميع ما أُلِّف في هذا المحور إنما هو العهد القديم، ويتفرع عنها الفينيقية والقرطجية كلتاهما مائتتان. رغم وجود كثيرين من الكتاب والباحثين يؤكدون أن العبرية كلغة مأخوذة في الكثير من مفرداتها وتراكيبها من الكنعانيين والآراميين والعرب، وها هو الباحث محمود حاج حسين في مؤلفه تاريخ الكتابة العربية وتطورها – الجزء الأول يقول: لقد أخذ العبرانيون لغتهم عن الكنعانيين والآراميين والعرب وكذلك كان قلمهم؛ ففي المرحلة الأولى كانت حروفهم منفصلة كما نرى في تقويم جيزر.. ثم أخذوا القلم الآرامي المربَع الذي انتشر في الشرق القديم الذي اعتمد من الهند إلى أفغانستان وفارس وشمال البحر الأسود، حيث عثر على كتابات في هذه الأصقاع، واستعمله اليهود في جزيرة الفيلة جنوب مصر، حيث كانت هناك جالية يهودية تسكنها. وقد تضمنت التوراة كثيراً من اللهجة الآرامية القديمة منها فقرة في سفر النبي أرميا وفصول من سفر عزرا ونبوءات دانيال (ص99). ويتابع الباحث في موضع آخر من المصدر نفسه حديثه عن أصل تسمية العبرانيين فيقول: العبرانيون هم اليهود. وقد اختلف الباحثون في أصل التسمية، فبعضهم قال: إنهم عبروا نهر الفرات بعد أن سباهم (بختنصر)، آخرون قالوا: نسبة لقبيلة (العبيرو). ويرى بعض الباحثين أن أصل اليهود قبيلة يمنية منعزلة، رحلت إلى شمال الجزيرة العربية وتسرب بعضها على مصر لاتفاق اليمنية والعبرية في بعض الأدوات اللغوية، وبعد خروج اليهود من مصر إلى سيناء ودخولهم فلسطين، سكنوا بقعة صغيرة في الجزء الشمالي من فلسطين، ثم أحدثوا لغتهم عن الكنعانيين والآراميين. 3 – العربية: وهي أسمى اللغات السامية ومعرفتها ضرورية لإتقان أخواتها. وقد كانت محصورة في شبه جزيرة العرب، فلما ظهر الإسلام أخذت بالانتشار إلى أن ملأت الخافقين بسبب الفتوحات الإسلامية المشهورة. (2) الهوامش 1 - د. جمال الدين الخضور – عودة التاريخ – الجزء الأول – دار الفرقد – دمشق – الطبعة الثانية – 2010-ص29 - جرجي زيدان – الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية –دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع- لبنان - بيروت -1987-ص37 |
|