تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


نامي يا أمي نامي

ملحق ثقافي
2018/10/2
رانيا عثمان

ينغل الخوف جسدها كسيل نمل هائج ينتشل فتات طعامه من أفواه الفقراء، جدران متوحشة تمد أصابعها للنيل منها، أرواح شريرة كزوبعة تدور بالمكان، لا طاقة للنجاة، تلتحف غطاءها ويبدأ جسدها بالاهتزاز، يباغتها خيال قديم يلف عنقها، تهلوس، تصرخ، تأخذها قدماها الى زاوية الغرفة ظنا منها بأنه باب النجاة، يتداعى جسدها على الحائط مخبئة رأسها بين ذراعيها، يأتيها صراخ امرأة يهز وجدانها تسرع لإغلاق أذنيها، لكن الصوت يتسرب من ثقوب أصابعها قائلة: هذا صوت صراخك فدعيني أعيش بسلام، تصمت لبرهة، ترقب المكان بعنين حذرتين، تسحب فمها إلى يمين خدها هازئة وأي سلام ينعش الروح بعد كل هذا العناء.

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

تنهض بقوة الواثق، تفتح باب المنزل، ترمق السماء بنظرة العارف وتمشي بخطوات مضمومة حتى لا ينال الهواء من عذريتها فكلمات والدتها ما زالت عالقة في ذاكرتها/ إياك أن تمشي مفتوحة القدمين فرجل الرياح يترقب فتحة قدميك ليسرق شراعك ويرحل/ تتسلل الابتسامة الى شفتيها لتتحول الى ضحكات متقطعة ممزوجة برائحة ماض صدئ وتعاود السير بطريقتها المحببة، تصادف في طريقها عجوزاً شاحبة الوجه تخاطبها بنبرة قاسية اللهجة: ما بال ضحكاتك تضاجع الغرباء، وأي ولادة شوهت قدميك وجعلتهما في مهب الرياح، تغلق فمها حابسة ضحكاتها كبالون مملوء بالقاذورات وترشقه في وجه الحياة قائلة: ما بال أمي كلما قتلتها تخرج روحها من جديد.‏

تتابع طريقها مدندنه أغنية عالقة في خبايا طفولتها / نامي نامي يا صغيري لخيطلك من غيم السما توب وطلعك صبية كبيرة/ تأخذها قدماها الى باب منزل رسمت بطفولتها على أخشابه الشمس، تقف أمام عتباته تقرع الجرس، تنتظر قدوم أحد، يخرج رجل سبعيني العمر، تنظر الى وجهه الدافئ، لم تشعر بغرابته فتقاسيم وجهه وتجاعيده خاطت بسنارتها الكثير منها، تقترب منه بخطوات جريئة تسند رأسها على كتفه لبرهة، تشعر بحنين يلتهم أوجاع روحها، فرائحة والدها ما زالت عالقة في ثنايا الروح.‏

تجتاز والدها وتمضي بممر ضيق وبذاكرة مشوشة، تتشردق أنفاسها بعبق الياسمين، تظهر أمامها فسحة دار كبيرة تتوسطها بحرة بيضاء اللون، تتراءى لها قطرات الماء كعصافير حاملة معها فرحها المنتظر تسرع لملاقاتها فاتحة ذراعيها رافعة رأسها مغمضة عينيها، تنتظر، وتنتظر، وكأن جميع الفصول مرت من هنا دون أن توقظها، تفتح عينيها بهدوء الخائب، تتشعب زوايا رؤيتها في شعب أغصان شجرة الياسمين، ترى السماء مسرحاً ممزق الستائر، تفلت يديها بمحازاة جسدها وعيناها معلقتان فيما تبقى من ضوء سماوي بين الشعب وتبدأ بالدوران، تدور وتدور، والدموع تتطاير مع أسراب السنونو الراحلة، تجلس على حافة البحرة تجمع بقايا أنفاسها، تسقط يدها اليمنى في الماء تجذف بها لتصل الى بر الآمان.‏

تنهض من مكانها تتجول في أنحاء المنزل، شيء ما تدفق بقوة الاشتياق والحنين ايقظ بعض خلايا الذاكرة الميتة، تجد نفسها طفلة تلعب مع والدتها واخوتها والضحكات والأصوات تضج بالمكان، تغمرها فرحة عتيقة، يبتسم فمها الخشبي، تورق عيناها وكأن طريق التعب اقترب من النهاية، فجأة تختفي الضحكات والوجوه والحركات، يخيم الصمت، تضغط بيديها على رأسها محاولة استكمال ما شاهدته منذ برهة، تفتح عينيها ترى نفسها بالقرب من بركة دماء ويداها مغطستان بدفء دم نقي، ترتبك، تصرخ، لست أنا، تخرج هاربة وأوجاع الذكريات تلاحقها، تنفض بيدها غبار الأوجاع دون جدوى، تركض، وتركض، والدموع أيقظت وجع المارة، تقف في منتصف الطريق تستجمع عناء مسيرها، تتمتم بكلمات غير مفهومة، يعلو صوتها أرجاء المكان مغنية بملء حنجرتها: نامي يا أمي نامي، نامي بقلب بنتك الصغيري، نامي وشربيني من دفا دموعك تأكبر وصير متلك حنوني، نامي على وجع بنتك الصغيري وسامحيها تتقدر تخلص من وجع الطفولي، نامي يا أمي نامي بضلوع بنتك الصغيري ونسيها دموعك الحنوني.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية