تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


القوة الذكية

إضاءات
الأثنين 24-2-2020
خلف المفتاح

منذ عدة عقود، أصبح الحديث عن أشكال وأدوات جديدة تستخدم في الصراعات والحروب حديث الجميع،

وبرز مصطلح الحروب الناعمة والصلبة إضافة للقوتين الناعمة والصلبة وعلى التوازي طرح مفهوم القوة الذكية وهي عبارة عن مزيج من القوة الصلبة والقوة الناعمة، أي الربط بين التسامح والشدة، حيث يقبل تعبير القوة الناعمة كثيراً من التسامح، بينما تقبل القوة الذكية بعض التشدد.‏‏

وتعني القوة الذكية لدى (أرميتاج) و (ناي) الدمج بين القوة الصلبة (Hard Power) وبين القوة الناعمة (Soft Power). فمن خلال الجمع بين هاتين القوتين اللتين يطلق عليهما القوة الذكية ستتمكّن الولايات المتحدة وفقها من التعامل مع التحديات العالمية؛ حيث العديد منها ليست ذات طبيعة عسكرية كصعود الصين التي حسب رأي الكاتبين تبني محطتي كهرباء تُداران بالفحم كل أسبوع، فالقوة العسكرية لن تفيد في التعامل مع تحديات من هذا النوع، ولكن التكنولوجيا الأميركية المتطورة من الممكن أن تجعل الفحم الصيني نظيفاً، والذي سيصبّ في حماية البيئة، وفتح أسواق جديدة أمام الصناعات الأميركية، وهو ما أكّد عليه وزير الدفاع الأميركي الأسبق (غيتس ) في خطابه في 26 تشرين الثاني 2007، حيث قال: (إن القادة الأميركيين أدركوا أن طبيعة الصراعات تحتاج منهم تطوير القدرات والمؤسسات الأساسية (غير العسكرية)).‏‏

ونظراً لضخامة حجم القوة لدى بعض الدول ومن ثم شعورها المفرط بهذه القوة، فقد ألفت التعويل على عضلاتها العسكرية ونفوذها السياسي والاقتصادي أكثر من انتهاج لعبة المساومات السياسية أو التمرس على فنون السيطرة الخفية والناعمة باستخدامها في كل وقت وحين، وعلى هذا الأساس نفهم كثرة لجوء الساسة الأميركيين إلى التدخلات العسكرية والمبالغة في إشهار السلاح في وجه الخصوم والأعداء أو من تعتبرهم مارقين وأشرار. بل إن شعورها بمثل هذا التفوق قد غذى عندها شعوراً عميقاً بالقدرة على هندسة أوضاع العالم وتشكيل أحوال الشعوب والأمم بقوة السلاح وفي مختلف مناطق العالم بما ينسجم مع رؤيتها ومصالحها الخاصة.‏‏

وقد وظفت الولايات المتحدة الأميركية قوتها الاقتصادية والعسكرية، غير المسبوقة تاريخياً، لبسط نفوذها على العالم، ليس فقط بتفوقها الصناعي والتكنولوجي والعلمي, ولكن أيضاً بفضل قوة تسلحها وضخامة جيشها، ولن يتراجع الأميركيون عن خياراتهم العسكرية غالباً إلا بعد أن يذهبوا بعيداً في استخدام قوتهم النارية وتجريب ما بحوزتهم من أسلحة ومخططات حربية شتى من التكتيكات الحربية والأسلحة، ثم بعد أن يواجهوا بقوة مضادة ومؤلمة تضطرهم إلى التسليم بمحدودية القوة وجدوى الجنوح إلى السلم والمساومات السياسية، وهذا ما بيّنته فعلاً تجربة اجتياح فيتنام وما تؤشر عليه عملية اجتياح العراق بالنسبة لأميركا، وأفغانستان بالنسبة لروسيا، وحسب ناي، فإن هناك خمسة تحولات دولية ساهمت في تراجع دور القوة الصلبة أو على الأقل قلّلت من فاعليتها، تمثلت في: العامل الاقتصادي والقوة العسكرية ونمو المشاعر القومية والتكنولوجيا المتقدمة والشركات المتعددة الجنسيات.‏‏

هذه التحولات الخمسة دفعت (ناي) إلى طرح مفهومه عن (القوة الناعمة) والتي تعني (قدرة دولة معينة على التأثير في دول أخرى وتوجيه خياراتها العامة، وذلك استناداً إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها، بدلاً من الاعتماد على الإكراه أو التهديد).‏‏

وعلى الرغم من أن جوزيف ناي هو الذي ابتكر مصطلح القوة الناعمة، في بداية التسعينيات، إلا أن أصول هذا المفهوم تعود لحقبة الولاية الثانية لفرانكلين روزفلت (1937-1941)، فقد أدرك روزفلت أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تشعر بأمان تام إلا عبر كسب تأييد شعوب الدول الأجنبية والتواصل معها، وهذا أدى إلى تأسيس وكالة المعلومات الأميركية وإذاعة صوت أميركا، ولاحقاً مؤسسات السلام في عهد جون كينيدي (1962).‏‏

في بداياتها، قدمت القوة الناعمة الأميركية نفسها على شكل سلع وخدمات (كوكا كولا، كاديلاتك هوفرز، وأفلام هوليوود)، وهذه السلع والخدمات سلطت الضوء، ببراعة ونجاعة، على فضائل الشركات والثقافة الأميركية، وفي أزمات أقرب، باتت موسيقا الروك، ووجبات ماكدونالدز السريعة، وسراويل ليفيز الجينز، ومقاهي ستاربكس، وقنوات الـ (سي .إن .إن)، تحمل رسالة مماثلة للعالم خارج حدود الولايات المتحدة.‏‏

وقد استفادت أميركا من شيوع اللغة الإنكليزية، سواء كلغة التخاطب اليومي، أم كلغة للتجارة والأعمال، بحكم وراثتها للإمبراطورية البريطانية، التي خلفت بصماتها اللغوية في مواطن كثيرة منذ العالم)، كما أسهمت ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال والتقدم التكنولوجي في إعطاء الشركات ومؤسسات الإعلام والثقافة الأميركية سبقاً على حساب غيرها من الأمم الصناعية، إلا أن تأثير هذه القوة الضخمة الكبير، بدأ يتقلص منذ إدارة جورج بوش الابن، ما أدى إلى كراهية الأميركيين، بما في ذلك منظومة قيمهم وثقافتهم العامة، وحتى شركاتهم التجارية، ناهيك عن عمق الأزمة التي باتت تعانيها على صعيد شرعيتها السياسية والأخلاقية، بما في ذلك في الدول المصنفة ضمن دائرة الحلفاء والأصدقاء.‏‏

وقد أظهر العديد من الاستطلاعات أن ثمة امتعاضاً واسعاً وعميقاً من المثل الأميركية، وتراجعاً في انتشار الأفكار الأميركية عبر العالم، رغم أن التكنولوجيا والثقافة الشعبية الأميركية لا تزال تحظى بإعجاب عدد كبير من الدول.‏‏

د.خلف علي khalaf.almuftah@gmail.com‏">المفتاح‏‏

khalaf.almuftah@gmail.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية