|
دين ودنيا الهجرة الثانية التي هم بها النبي الكريم كانت إلى الطائف ولكن أهل الطائف كذبوه وأخرجوه وحاربوه ووجد نفسه وحيداً شريداً عند قرن الثعالب. والهجرة الثالثة التي حاولها كانت إلى الحيرة حيث مضارب بني شيبان من المناذرة وبعد تشاور عميق مع هانئ بن قبيصة والمفروق بن عمرو والمثنى بن حارثة الشيباني قرر النبي تغيير وجهته عن الحيرة، والتقى بعد ذلك بالرعيل الأول من أهل المدينة المنورة الذين رأوا فيه البشائر الموعودة في تاريخ الأنبياء وأنه الرسول الخاتم الذي يجمعهم عليه الله بعد شتات وحروب وفتن استمرت أكثر من مائة عام. اشتهرت هجرة النبي محمد ولم تشتهر هجرة السيد المسيح، ولم تكرس كإحدى عجائبه، ولكننا معنيون هنا في الشام الشريف بالحديث عن هجرته، فقد أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى بربوة ذات قرار ومعين. ومن المؤكد أن السيدة العذراء مريم حين ضمت إليها وحيدها الآتي من الله بغير رجس ولا دنس ولا خطيئة، حملته فانتبذت به مكاناً قصياً، والمكان القصي هو بقعة بعيدة في الأرض أرادت أن تسلم به من بطش اليهود الذين كانوا يكيدون للسيد المسيح لقتله قبل أن يشتد عوده ويبشر برسالته. أين هاجرت مريم؟ التفسير يدور حول ظاهر الآية الكريمة: وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين، تقول رواية إنها ذهبت به إلى مصر وتقول الأخرى إنها ذهبت به إلى الرملة بأرض فلسطين، أما الرواية الثالثة فقد أوردها سعيد بن جبير ونقلها مالك في الموطأ وابن عساكر في تاريخ دمشق، وهو أن الربوة المذكورة في القرآن الكريم هي ربوة دمشق، وهي ربوة كما يقول ابن عباس على مسافة ميلين من غربي دمشق عند جبل يقال له النيرب. إنها دمشق! مهاجره حين كان طفلاً وموعده حين يعود كهلاً نبياً ويبشر العالم برسالته الباقية، تماماً كما وعد النبي الكريم والذي نفسي بيده يوشك أن ينزل فيكم المسيح عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق يتهادى بين مهرودتين إنها عقيدة كل مسلم في الأرض وليست فقط اعتقاد أهل القيمرية أو القباقبية أو الجورة أو باب شرقي، إنه رصيد كبير للشام الشريف أن يكون السيد المسيح حاضراً في تجلياته في ضمائر أهل الشام وآمالها وأمانيها. لماذا يهاجر الانبياء؟؟ أليس من سخرية القدر أن الرجل الذي جاء قومه بمجد الدنيا وفوز الأبد يجد نفسه ذات مساء يهرب من خوخة في دار أبي بكر، ثم يتسلل لواذاً على رؤوس أصابعه ويتجه عكس ما كانوا يرصدون ليأوي إلى غار ثور في بطن الصحراء لا فرصة لديه لينبس ببنت شفة صامتاً في بطن غاره ليسلم بعنقه وروحه من بطش حراس الإسطير من جنود الكعبة وسدنة البيت الحرام الذين لم يجدوا قربة إلى الله أفضل من إراقة دمه في البلد الحرام!! وراحوا كالمجانين مسعورين يذرعون الصحراء جيئة وذهاباً للبحث عن رجل لم يمس أحداً منهم بسوء ولم يظلم أحداً في درهم ولا دينار، لم تكن حربهم عليه إلا استجابة لنداء الكهنة الغيورين على البيت الحرام الذين لم يروا فيه إلا مجدداً هرطوقاً لا يعبأ بثوابتهم البالية!! قد نفهم بتكلف عسير لماذا يطارد حراس الدين القرشي خطا محمد، ولكن الأشد عجباً من ذلك هو مطاردتهم للفتى الناصري الذي لم يكن آنذاك إلا أغنية دافئة غنت بها شفة الحياة، وبشارة من أمل جرت على ألسنة الوجود، ولكن كل ما جاء مع الفتى الناصري من عجائب ومع أمه العذراء لم يشفع له من غضبة الإرهاب الديني الذي طارده بسيوف مصقولة لئيمة تشتاق إلى دمه، وهو برعم فرح بريء ووجد فتى المغارة نفسه يهرب في حجر أمه بين مغارات تنتهي به إلى ربوة ذات قرار ومعين. لماذا يهاجر الأنبياء؟ لأنهم طليعة المجددين في الأرض وليعلم الذين ينهجون على خطاهم أن مسيرة التنوير لن تكون على البسط الحمراء والفرش الوثيرة، إن تغيير المألوف أشد من ضرب السيوف، وكل تجديد في الأرض سيواجه من قبل حراس الإسطير بالغضب الأحمر الماحق. من يصدق وهو يرى مشهد الطوفان البشري الهائج الهائل القادم من أركان العالم الأربع إلى مكة، يهللون ويكبرون ويقبلون تراب مكة، ويغسلونه بمدامعهم وأشواقهم، ويغتسلون بمائها طهراً ويأخذون بمعالمها شماً وضماً، من يصدق أن الرجل الذي جاء قومه بهذا المجد وأيقظ اسم قريتهم الهائمة في الصحراء لتكون سبحة حب وقدس على ألسنة العالمين!! من يصدق أنه وجد نفسه طريداً شريداً من مدينته يطارده قوم قساة غضاب يضربون بظبا سيوفهم في أثر وجهه هاتفين غاضبين باسم الرب؟؟ من يصدق أن الرجل الذي جعل من فلسطين مدينة الله، تذكر مع الطهر والنبالة والقداسة، وأرسل ضياء الأرض المقدسة في الدنيا ليبدأ العالم بتاريخ ميلاده وتنتهي الدنيا عند آثار خطاه، من يصدق أن هذا العملاق الهائل وجد نفسه شريداً طريداً بين جبال فلسطين، ثم وجد نفسه يقاد موثقاً إلى خشبة الصلب ليعلق بين لص وقاتل، في إرادة شريرة قذرة لإنهاء أسطورته مع القتلة والبلطجية والحثالة ؟ إننا نقرأ الحكاية من فصلها الأخير، نقرؤهم وهم يمتلؤون مجداً ويسكنون في الضمائر، ولكننا قل أن ننتبه إليهم وهم يفرون مطاردين فزعين بأرواحهم من سيوف طائشة طالما قعقعت باسم الرب وانتشت على أثباج الخيول إرضاء لأمر إله غاضب حقود يدفعهم دوماً بوصيته في قتل كل هرطوق مارق. أغنية الهجرة طلع البدر علينا وما رافقها من بهجة وفرح كانت في جانب واحد من المشهد، ولكن المشهد الثاني كان يغلي بإعلان صارم باسم الرب أن مائة رأس من الإبل ستدفع باسم الرب لمن يأتي برأس هذا الهرطوق الضال المسمى محمد حياً أو ميتاً، وأن ذلك كله سيتم فداء لوجه الكعبة المعظمة!! أغنية المسيح التي سمعها رهبان المجوس وبشروا بها مع نجمة الفجر كانت جزءاً واحداً من المشهد، وفي الطرف الآخر منه كان خطاب غضب أحمر يعصف برؤوس الكهنة ويشحذ سيوفهم من أجل الخلاص من طفل الناصرة الجالب للمتاعب، وهو غضب سيظل يلاحق الفتى الناصري من ناد إلى ناد إلى أن تنصب له خشبة الصلب، وحين يتردد بيلاطس في صلب المسيح ويقول لهم خذوه أنتم واصلبوه لأنني لم أجد له علة!! يهتاج الدهماء من الناس دفاعاً عن الدين ويطالبون بيلاطس بالعمل بإرادة الناموس كما شرحها الكهنة المخلصون وما ان دفع بيلاطس المسيح لليهود ليصلبوه حتى اخذه الجند وجمعوا كل الكتيبة حوله، فخلعوا عنه ملابسه وألبسوه رداء قرمزياً، وضفروا من الشوك إكليلاً على شكل تاج ووضعوه على رأسه، وقصبة في يمينه. ثم أخذوا يهزؤون به ويبصقون عليه ويضربونه على رأسه. ثم ألبسوه ثيابه ومضوا به ليصلب. بعد ليلة طويلة قاسية في البستان وأمام حنان وقيافا، ويوم صعب أمام بيلاطس الوالي وهيرودس الملك، وبعد الحكم بالصلب خرج المسيح حاملاً صليبه في طريقه إلى الجلجثة. كان الطريق وعراً ضيقاً مليئاً بالأحجار والحفر. حمل الصليب على كتف ممزق من سياط الجلادين وظهر مليئاً بالجروح والكدمات. ولضيق الطريق وتعب الجسد ووخز الجروح سقط المسيح بصليبه على أحجار الطريق عدة مرات. طريق الجلجثة سيظل محفوراً في ذاكرة الأمم ومع أنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، ولكن مشهد الشافع العطوف الممتلئ رحمة وحباً الذي يدفعه جنود قساة بأمر الناموس السماوي سيبقى في ذاكرة الأجيال بياناً لما ينبغي أن يدفعه المجددون في مشوارالتغيير. كان هناك كفاح طويل، ودرب آلام وطريق جلجثة وغار ثور ووثيقة حصار ظالم معلقة في جوف الكعبة قل أن تطل فتيات المدينة بوجوههن البريئة الصادقة ويغنين أنشودة العالم: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع ألف درس في رسالة التجديد تقدمه دمشق في هجرة محمد وهجرة المسيح، وهي حقيقة يشرحها علم سورية بنجمتيه الخضراوين: نجمة لمحمد ونجمة للمسيح. عضو مجلس الشعب |
|