تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


من أعلام التنوير... ابـــــــــن قـــــــــــــــدامة المقدســـــــــــــــــــــي

دين ودنيا
الجمعة 26-12-2008م
حي الصالحية بدمشق أبرز معالم الجبل العتيد قاسيون، وهذا الحي المكتظ بالسكان وفيه سوق الجمعة ومزارات الصالحين والمساجد والمراقد وغيرها.

لم يكن لنا أن نرى هذا الحي بصورته القائمة لولا وصول أسرة كريمة إليه وهي آل ابن قدامة من المقادسة الذين وصلوا إلى دمشق في منتصف القرن السادس الهجري.‏

هو الشيخ الإمام العلامة المجتهد موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن نصر المقدسي الجمّاعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي.‏

ولد رحمه الله بجمَّاعيل إحدى قرى مدينة نابلس جبل النار سنة 541 هــ، في أسرة عرفت بالعلم والصلاح، واجهت أسرته فظائع الحروب الصليبية وكانت نابلس قد وقعت في قبضة الاحتلال الفرنجي بعد سقوط القدس في عام 1099 ميلادية.‏

عانت أسرة ابن قدامة أشد العناء من المظالم التي مارسها الحاكم الفرنسي باليان بن بارزان، حاكم إقطاعية جبل نابلس، الذي قتل كثيرا من المسلمين وعذب آخرين فقطع أيديهم وأرجلهم، ولم يكن في الفرنجة أشد منه ظلماً وعتوا في الأرض.‏

و تسامع المقادسة بأن نور الدين محمود زنكي قد نجح في طرد الحملة الصليبية الثانية من دمشق حيث كان حاكمها معين الدين أنر قد منح الفرنجة عدداً من الامتيازات والنفوذ في دمشق مقابل أن يقروه على ولايتها، ولكن مع موت معين الدين أنر فإن نور الدين كر على دمشق وواجه الحامية الصليبية التي كانت ترابط على تخوم دمشق وتمكن من طرد الصليبيين ودخل دمشق عام 549 هجرية، وأُعلن في دمشق عن توحد بلاد الشام تحت قيادة نور الدين الشهيد، من الرها شمالاً حتى حوران جنوباً، وبدا واضحاً أن دمشق أصبحت مقر المقاومة لتحرير بيت المقدس على يد الأمير محمود زنكي المعروف باسم نور الدين الشهيد.‏

هاجر الشيخ أحمد والد ابن قدامة مع ولديه الموفق عبد الله وأبو عمر محمد من نابلس إلى دمشق عام 551 بعد عامين من تولي نور الدين الحكم في دمشق، ثم لحق بالشيخ خمسة وثلاثون نفسا، إلى دير في سفح جبل قاسيون، اختاره لهم رجل صالح يدعى أحمد الكهفي· وبنى القوم في ذلك المكان المهجور، بيوتاً ثلاثة أتبعوها برابع ما فتئت تتسع بتشييد دور وحوانيت ومساجد حتى عمرت المنطقة بالسكان والعلماء والزهاد، واتسعت معها شهرة بني قدامة، وذاع صيت حديث الشيخ أحمد والمهاجرين الذين عرفوا بالتقوى والزهد والصلاح فسموا بالصالحين، وسميت المنطقة بالصالحية نسبة إليهم:‏

الصالحية جنة والصالحون بها أقاموا‏

فعلى الديار وأهلها مني التحية والسلام‏

غير أن العمل الذي خلد ابن قدامة المقدسي هو كتابه الكبير المغني في الفقه الذي اعتبر أول موسوعة جامعة لأعمال الفقهاء، مع أن ابن قدامة كتب كتابه هذا شرحاً لمختصر الخرقي في الفقه الحنبلي، ولكنه توسع فيه في خيارات الفقهاء فصار بحق موسوعة جامعة لما قدمه الفقهاء من قبله.‏

كما أن ابن قدامة يعتبر بوجه آخر المؤسس المنهجي لفقه الإمام أحمد بن حنبل فقد كان فقه الإمام أحمد مجموعاً في ثنايا المسند الكبير، وقد تمكن الخرقي أولاً من جمع أمات مسائله، ولكن ابن قدامة قام بشرح تفصيلي لهذه الخيارات الفقهية وترك هذه الموسوعة الفقهية الكبرى لينتفع بها الناس من بعده.‏

درس ابن قدامة على شيخين هامين: الشيخ عبد الرحمن بن الجوزي والشيخ عبد القادر الجيلاني، والأول من رموز التصوف والثاني من رموز السلفية ما وسع مصادر المعرفة لدى ابن قدامة وأعانه على دراسة الفقه المقارن.‏

أما تلامذته فقد عرف منهم عدد من العلماء، منهم عبد الرحمن بان قدامة، وشيخ المحدثين ابن الصلاح، وعبد العظيم المنذري صاحب الترغيب والترهيب.‏

ومع أن القدس تحررت على يد صلاح الدين الأيوبي عام 583 حيث كان ابن قدامة في الثانية والأربعين من عمره ولكنه آثر أن يبقى مع أسرته في دمشق متفرغاً للعلم والمعرفة، وأسهم مع أخيه أبي عمر محمد في تأسيس المدرسة العمرية الشهيرة بحي الصالحية.‏

ومع أن عبد الله أبو عمر شقيق الإمام الموفق هو من قام ببناء المدرسة العمرية، ولكن دور الإمام الموفق كان واضحاً في إدارتها والتعليم فيها والمشاركة في بنائها، حتى أصبحت أهم جامعة للعلوم الإسلامية في بلاد الشام، ويقال إنها كانت تحتوي على ثلاثمائة وستين حجرة للدراسة بحيث يمكنك الالتحاق في أي يوم من أيام السنة لتبدأ المنهاج من أوله، وكان هذا البرنامج مناسباً تماماً للقادمين من الآفاق الذين يصلون في مواسم شتى ولكنهم يجدون في أي وقت قدموا من يقدم لهم المنهاج من بدايته.‏

تزوج الشيخ الموفق ابنة عمه ورزق منها بأبي المجد عيسى وأبي الفضل محمد وأبي العز يحيى وصفية وفاطمة، ومات أولاده الثلاثة في حياته ولم يعقب من ولده سوى عيسى خلّف ولدين وماتا وانقطع عقبه !‏

توفي رحمه الله يوم الفطر سنة 620 هــ ودفن بجبل قاسيون خلف الجامع المظفري (جامع الحنابلة حالياً) وقد شيعته دمشق بجنازة حافلة خاشعة، وظل اسمه الكبير يرتبط بالنهضة العلمية التي أسسها المقادسة في حي الصالحية بمدينة دمشق وبكتابه المغني في الفقه الذي سار في الآفاق وأسس لأول موسوعة للفقه المقارن في الإسلام.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية