تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


رحلة غير منتهية

الملحق الثقافي
5-2-2013م
قصة: سامر أنور الشمالي-انطلقت الحافلة مع بزوغ الفجر، ودارت عجلة القيادة بين يدي السائق، كما دارت العجلات الأربع على إسفلت الطريق الطويل.

أجرؤهم- وليس أجملهم صوتاً- افتتح الرحلة بالغناء، فأخذ الركاب يرددون خلفه المقطع الأخير من أغنيته، وهم يصفقون بحماسة، فقد كان بينهم اتفاق غير معلن على إظهار السعادة، والتمتع بها صراحة قدر المستطاع، ونسيان ما خلفوه وراءهم من أحلام كبيرة، ومشاكل غير قابلة للحل، وأحباء لا يفرح المرء دونهم.‏‏

بعدما تعبوا من الغناء والتصفيق، ومن الضحك أيضاً، أخرجوا ما بحوزتهم من طعام وشراب، وأخذوا يمضغون الطعام بشهية، ويرتشفون الشراب بلذة.‏‏

‏‏

استرخى كل منهم على مقعده بصمت، بعدما ملوا من الثرثرة لمجرد التسلية واللهو، وقد أشاحوا بوجوههم إلى النوافذ وهم يتأملون كثبان الرمال التي تنسحب أمام أبصارهم برتابة باعثة على النعاس، ثم ناموا وهم يحلمون بما ينتظرهم من مفاجآت سارة يتوقعون حدوثها الوشيك، وكيف سيتحدثون عنها للأصدقاء والأقارب إلى آخر يوم في حياتهم.‏‏

••‏‏

أيقظهم صراخ السائق مع قدوم المساء:‏‏

-انزلوا بسرعة.‏‏

حدقت العيون الناعسة مستفهمة، فأردف السائق بصوت خافت، وكأنه يعتذر عن صراخه غير المبرر منذ قليل:‏‏

- سأبدل العجلة.‏‏

خرجوا من الحافلة على مضض وهم يتثاءبون، ويظهرون استياءهم. ولكن بعدما أخذوا يتأملون خط الأفق الأرجواني أعجبهم المنظر، وشعروا ببهجة منعشة، وقد دخل في صدورهم هواء نقي البرودة.‏‏

••‏‏

خيم الليل بصرامة، وغرقت الصحراء في ظلام دامس. وحاصر السواد الركاب من كل جانب، فارتفعت نظراتهم من النوافذ إلى رحابة السماء؛ حيث تتلألأ النجوم حول قمر يرسل نوراً أبيض نادراً ما يرسم ظلالاً في رحابة انبساط الصحراء، وهذا نبههم إلى أنهم نادراً ما يرون النجوم في سماء المدينة التي تحجبها الأبنية المرتفعة، والغبار، والأنوار المبهرة.‏‏

- نبدو كذرة رمل صغيرة في دوامة إعصار هائج.‏‏

قال أحدهم، وصمت مكتفياً بما عبر به عن فكرة داهمته فلم يستطع الاحتفاظ بها لنفسه.‏‏

شعروا بالخيبة، فقد راودهم إحساس حاد بضآلة وجودهم، رغم كل آمال الانتصارات التي ظنوا أنهم سيحققونها في مطلع شبابهم.‏‏

قطع الصمت المشبع بالركود صوت الرجل الجالس عند الباب:‏‏

-أيها السائق.. أغلق الباب.‏‏

اعترض الرجل الجالس خلفه:‏‏

-الهواء منعش. هل تنوي خنقنا ونحن وسط الصحراء.‏‏

فأعاد الرجل القول محذراً:‏‏

-مُدَّ رأسك من النافذة واستنشق ما شئت من الهواء المنعش، ولكن لا بد من إغلاق الباب، فقد يهاجمنا قطيع من الوحوش المفترسة.‏‏

أغلق السائق الباب متّقياً نذير الشر، وتبعه إغلاق بعض النوافذ من الركاب الذين داهمهم الخوف على حين غرة، فاحتاطوا للأمر، واكتفوا بترك فتحة صغيرة لنسمات الهواء العليلة.‏‏

-لقد عكرت مزاجنا.‏‏

قال أحدهم معترضاً وهو يهز رأسه، وأيده الجالس قربه:‏‏

-ثمة أناس لا يسرهم سعادة الآخرين.‏‏

نظر - الرجل الذي اقترح إغلاق الباب- بحقد إلى الخلف، متحيناً الفرصة المناسبة للانقضاض على خصميه. وانتبه الجالس قربه للأمر، فقال ليخفف من وطأة التوتر، قبل أن ينشب خلاف لا تحمد عقباه:‏‏

-ألم نتأخر أكثر مما ينبغي؟ أجابه السائق، وهو يحدق في طريق ابتلعه الظلام:‏‏

‏‏

-لا تكن عجولاً.‏‏

ثم ساد الصمت من جديد، وكأن برودة الصحراء خففت حتى من الرغبة المتقدة في الكلام.‏‏

وما لبث أن غرق الجميع في النوم، وكأنهم يهربون من وحشة الظلام التي تثير المخاوف الكامنة في النفس، وربما ليلتقوا سريعاً بالصبح المنتظر حيث تنتظرهم المغامرات التي يأملون أن تكون هي السعادة ذاتها.‏‏

••‏‏

مع انبلاج نور الفجر استيقظ أحد الركاب فرأى بقية الركاب نياماً، والحافلة متوقفة في الطريق، فصرخ كي ينفث عما في نفسه من إحباط مبكر:‏‏

-أيها السائق.. لو لم تنم لوصلنا إلى غايتنا.‏‏

لم يرد السائق عليه، فأخذ يشتمه بصوت عال، حتى استيقظ كل من في الحافلة.‏‏

اقترب أحدهم من السائق، وهزه بعنف من كتفه، ولكنه لم يتحرك.‏‏

راكب آخر هرع إلى السائق وتناول يده، ثم قال بأسف:‏‏

-جسده بارد.. لقد مضت ساعات على وفاته.‏‏

استيقظ الجميع على خبر حزين لا ينتظرونه، وتداعت عبارات متعاطفة مع السائق الميت، ثم فرض الواقع نفسه بقسوة:‏‏

-ماذا نفعل بالجثة؟‏‏

-ندفنه في الرمل.‏‏

-يجب أخذه إلى ذويه.‏‏

بعد طول جدل، غطوا جثة السائق، ووضعوها فوق الحافلة.‏‏

••‏‏

ظل السائق الميت محور الحديث إلى أن تساءل أحدهم وهو ينظر إلى نقطة يتلاشى فيها الطريق مع خط الأفق:‏‏

-من سيقود الحافلة؟‏‏

تطوع أكثر من شخص للقيادة، ودخلوا في جدل حاد حول ترتيب الأدوار، ولكن سرعان ما برد الحماس حين قال رجل نحيل بصوت مبحوح:‏‏

-ليست المشكلة في من سيقود الحافلة، بل في من يعرف الطريق.‏‏

تبادلوا النظرات بحيرة، وقد خيم عليهم الجزع، ثم تتالت الاقتراحات باحثة عن أمل قريب:‏‏

-نواصل السير إلى الأمام.‏‏

علق أحدهم ساخراً:‏‏

-وإذا كان السائق قد استدار بالحافلة قبل وفاته.‏‏

رد آخر باستهجان:‏‏

-رغم أنه احتمال مستبعد فإننا سنعود من حيث أتينا.‏‏

-وبذلك نكون قد خرجنا من ورطتنا.‏‏

قال آخر بخيبة مؤكداً اقتراح رفيقه.‏‏

ولكن الرجل الواقف أمامهما قال بسخرية وهو يهز رأسه الأصلع:‏‏

-الأمر بسيط ولا يحتاج إلى التعقيد، لنسر عكس جهة شروق الشمس كما كنا نسير.‏‏

سوف نصل إلى غايتنا في نهاية المطاف.‏‏

••‏‏

اتفق الركاب على تبديل السائق كل ثلاث ساعات، وأن يكون برفقة السائق مساعد ينبهه ويراقب الطريق.‏‏

••‏‏

ما إن سارت الحافلة لعدة أميال حتى توقفت، وتصاعدت الاستفسارات التي تنوس بين الحيرة والخشية من كارثة جديدة:‏‏

-لماذا توقفت الحافلة؟‏‏

-ما العطل هذه المرة؟‏‏

-هل سنصل إلى نهاية الطريق حقاً؟‏‏

قال مساعد السائق:‏‏

-الحافلة على مفترق طرق.‏‏

قال أحدهم ببساطة:‏‏

-سيروا على أي طريق وكفى.‏‏

نظر إليه الجميع بغضب، حتى إنّ الجالس خلفه أراد أن يضربه لولا تدخل المرأة الجالسة بمحاذاته.‏‏

قال مساعد السائق وهو يغادر مقعده:‏‏

-لنناقش الأمر بجدية وهدوء.‏‏

ثم قفز إلى الأرض، فأسرع الركاب بالنزول خلفه، وتجمعوا حول السائق المساعد الذي جلس على صخرة كبيرة قرب مفترق الطرق دون أن يكف عن الثرثرة.‏‏

قال رجل طويل وهو يقف على أطراف أصابعه:‏‏

-قد يكون ثمة طريق طويل، وآخر قصير.‏‏

-إن كان كلامك صحيحاً، فكيف سنعرف ذلك؟‏‏

تساءل صوت ساخر، فقال صوت خشن بجدية:‏‏

-لا بد من اختيار الطريق المناسب، وعدم الاستسلام للمصادفة العمياء.‏‏

-أحسنت أيها الذكي.‏‏

عقب صوت نسائي بسخرية، فارتفع صوت الضحك، وتداخلت الأصوات بجلبة، فهناك من يريد السير على التفرع الأيسر للطريق، ومنهم من اختار الجانب الأيمن. وحدة الصراع لم تمنع فتاة بدينة من إبداء تعليق طريف:‏‏

-لو كان ثمة طريق في الوسط لسرنا عليه وانتهت المشكلة.‏‏

ضحك عدد محدود بصوت عال، واكتفى قسم آخر بالابتسام، وتجاهل أكثرهم الأمر وكأن شيئاً لم يكن.‏‏

وبعدما تعب الجميع من الصراخ والمحاججة اتفق أكثرهم على إجراء القرعة وترك الأمر للمصادفة العمياء.‏‏

••‏‏

انطلقت الحافلة، وبدأت الوساوس تخمد مع رتابة الطريق، إلى أن توقفت مرة أخرى بعد مسافة ليست بالقصيرة. فصاح مساعد السائق قبل أن يسأله الركاب عن سبب الوقوف المفاجئ.‏‏

-لقد انتهى الطريق.‏‏

خرجت أصوات الضحك من مقاعد الركاب، فقد ظن البعض أنه يمازحهم للوهلة الأولى. بينما قفز آخرون من مكانهم بحبور، فقد خيل إليهم أنهم وصلوا إلى مبتغاهم.‏‏

وقف رجل يرتدي نظارات طبية، وقال بطريقة مسرحية:‏‏

-أيها السادة.. كيف ينتهي الطريق؟!‏‏

ارتفع صوت الضحك مجدداً، وزاد صخب الركاب. ولكن سرعان ما تأكد للجميع أن الأمر حقيقة واقعة وليس هناك مجال للمزاح.‏‏

ترجل الركاب من الحافلة وقد خيم عليهم القلق مجدداً.‏‏

قال الرجل البدين وهو يغرس يديه في الرمل:‏‏

-الطريق لم ينته.. ولكنه مغطى بالرمل.‏‏

وقال صاحب السترة الزرقاء وهو يشير إلى الطريق الرملي لعدة أمتار، ثم بدأ الحفر بيديه:‏‏

-قد يكون كلامك صحيحاً لأمتار قليلة، ولكن بعدها قد تكون نهاية الطريق أمراً واقعاً.‏‏

الرجل الأصلع قال وهو يركل بقدمه الرمل فيتناثر أمامه:‏‏

-على أي حال لا بد من إزالة الرمل لنتابع الرحلة.‏‏

اعترض ذو السترة الزرقاء قائلاً:‏‏

-إذا انتهى الطريق يكون كل ما بذلناه من جهد في إزالة الرمل عن الطريق قد ذهب عبثاً.‏‏

سكت الرجل البدين، وصمت الجميع بعدما شملتهم الحيرة، إلى أن قال رجل يشعل لفافة تبغ:‏‏

-الأفضل أن نعود من حيث أتينا.‏‏

ونتيجة الإحباط أيده أكثر من شخص، إلى أن صرخ رجل قصير وهو يطوح بيديه عالياً:‏‏

-بهذه السهولة نضيع من يدينا هدف الرحلة الذي حلمنا به لسنوات؟!‏‏

أردف الرجل الذي أشعل لفافة تبغ وهو ينظر إلى الركاب باحثاً عن مؤيد له:‏‏

-أفضل من أن نضيع في الصحراء.‏‏

أكد الكثير من الركاب هذا الرأي الحازم، ولكن لم يتفق الجميع على ذلك، لاسيما أن الرجل الأصلع شتت هذه الفكرة عندما قال:‏‏

-ما رأيكم بالعودة والمسير في الطريق الآخر.‏‏

عندئذ ارتفع اللغط من جديد. إلى أن قال الرجل النحيل وهو يسند ظهره على الحافلة التي أخذت تفقد بريقها:‏‏

-لنؤجل الخلاف حتى نصل أولاً إلى مفترق الطرق.‏‏

القول الأخير لم يطمئن الجميع، فقد أحسوا أنه ينذر بكارثة ما، ومع ذلك رضخوا للاقتراح لأنه أكثر واقعية من سواه، فعاد كل منهم إلى مكانه، ثم انطلقت الحافلة في طريق العودة.‏‏

••‏‏

توقفت الحافلة مرة أخرى، وتداخلت الأسئلة مستفسرة عما حدث.‏‏

قال من كان دوره في قيادة الحافلة:‏‏

-عطل طارئ.‏‏

نزل بعض الركاب، ثم اقترب رجل يكشف عن ذراعين قويتين من محرك السيارة، وقال بعدما فحصه بإمعان:‏‏

-الخلل في المحرك.‏‏

خاطبه الرجل الذي يرتدي نظارات طبية بنفاد صبر:‏‏

-أصلحه.. ماذا تنتظر؟!‏‏

رد عليه بشماتة:‏‏

-أحتاج إلى أدوات كي أصلحها.‏‏

بحثوا في الحافلة بدقة، ولكنهم لم يجدوا الأدوات المناسبة.‏‏

وتداعت الأصوات التي اختلطت بين اليأس والرجاء:‏‏

-أصلحها كيفا اتفق.‏‏

-المهم أن تسير وكفى.‏‏

صمت السائق، إلى أن انتهت اقتراحاتهم، فقال وهو يحدق إلى الجميع بحزم:‏‏

-أحتاج إلى مساعدة.‏‏

تحلق المتطوعون حوله، وبسكاكين وملاعق الطعام، استطاعوا بالكاد إصلاح المحرك.‏‏

قال مساعد السائق:‏‏

-يمكن للحافلة أن تسير الآن.‏‏

فانبسطت الأسارير، وانتشوا بالأمل من جديد. وأردف السائق المساعد كيلا يخدعهم:‏‏

-ولكن أخشى من تكرر العطل لهذا يجب أن نسير ببطء.‏‏

تبادل الركاب النظرات بخيبة، ثم قال رجل عجوز وهو يحك بأصابعه المعروقة شعره الأبيض:‏‏

-ليس لدينا خيار آخر.‏‏

ودارت العجلات المرهقة ببطء هذه المرة.‏‏

••‏‏

بعد عشرات الأمتار توقفوا، لقد كانوا يخشون من عطل آخر، ولكن المفاجأة كانت أكثر إحباطاً:‏‏

-لقد نفد الوقود.‏‏

صاح السائق وكأنه يزيح بذلك حملاً ثقيلاً عن صدره. وأردفت امرأة تقف بجواره بمرارة أكبر:‏‏

-الطعام يوشك على النفاد أيضاً.‏‏

قال الذي يرتدي الجينز:‏‏

-ليس أمامنا سوى الانتظار، علنا نلتقي بسيارة عابرة.‏‏

رد أحدهم ساخراً من غباء المتكلم:‏‏

-إنه طريق مهجور، فلم نلتق سيارة واحدة طوال الرحلة.‏‏

قالت امرأة في مقتبل العمر، وهي تمسح دموعها:‏‏

-ماذا نفعل؟!‏‏

-نسير على أقدامنا إذ ليس لدينا مجال لإصلاح الحافلة.‏‏

قال ذلك أكثر الركاب لياقة بدنية، فنظر إليه الرجل البدين بغيظ، ثم قال:‏‏

-الطريق طويل.. وسنموت من الجوع والتعب إذا لم تفترسنا الوحوش الكاسرة.‏‏

-ما العمل؟‏‏

ردد أكثر من صوت بحيرة، وهم يأملون إجابة تشعرهم ببعض الأمل.‏‏

••‏‏

لم يتقفوا على رأي واحد. وجفت حلوقهم من كثرة الكلام والصراخ دون جدوى. ثم تهالكت أجسادهم العطشى الجائعة على المقاعد المتعرقة من الأجساد اللاهثة الباحثة عن ظل في هجير شمس الصحراء اللاهبة.‏‏

••‏‏

تدافع الركاب بخوف وهم يدخلون الحافلة بسرعة، وأسرعوا في إغلاق النوافذ والأبواب بإحكام، وهم ينظرون بهلع إلى سرب من الطيور الجارحة التي أخذت تدنو منهم بوقاحة دون أن تأبه لصفيرهم، وشتائمهم، والأشياء التي يقذفونها بها.‏‏

أخذت الطيور السوداء تضرب الهواء بقوة، وهي تحوم حول الحافلة التي اتسعت عيون ركابها ذعراً، وهي تحدق بخوف، ثم حطت على سطح الحافلة لتنهش بمناقيرها الحادة جثة السائق.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية