|
الملحق الثقافي تنشأ عن جملة من الدوافع والحاجات والميول والقدرات الموروثة من الأسلاف، إضافة إلى الإمكانات العضوية في عمليتيّ البناء والهدم الحادثة في أجسادنا على نحو تلقائي بحسب طبيعتها التكوينية ذاتها. وقد استدعى ذلك أن يجري نوعٌ من «الاعتراف الخجول» بشرعية وجود ضرب من الاختلال النفسي لدى الأشخاص، يتمثل في لامنطقية الأفكار وتداخلها وغموضها وغرابتها، في أشكال وتبدّيات مختلفة، نراها في حياتنا اليومية على اختلاف الموارد والسلوكات والمواقف، وهي التي تبدو أكثر وضوحها وتشخيصاً في الأعمال الأدبية، وخاصة الحكائية والقصصية والروائية. وهذا الطراز من الربط بين ما هو جسدي وما هو نفسي، أباح القول بأنّ «الاضطراب الكامن» في طبيعة الوجود الإنساني هو تعبير عن «النقص» الذي تشكو منه طبيعتنا «الميتافيزيقية»، مهما كانت هذه العبارة غامضة التحديد في دراسات المختصين، حيث يبدو الوجود البشري «الفردي» بمثابة إحالة مستمرّة دائمة إلى «الآخر». وهذا ما يجعلنا مضطرين إلى قبول حالة الإنسان الراهنة، بنوع من الأمل أو التشاؤم، باعتباره ذلك الكائن الزماني المتغيّر المتقلّب، الذي لا يفتر عن «الصيرورة» المستمرة التي تجعله كائناً ليس هو «ذاك» الذي كان في الماضي. وهذا ما جعل ألفافاً من الأدباء والنقاد يرون في تسويغ ذلك على المستوى الرمزي طريقة مناسبة لبناء العمل الإبداعي، ضمن مستواه الفني بصورة عامة، وربما كان ذلك تسويغاً لبُنية تصوّرية ممكنة على المستوى الأخلاقي أيضاً. وكان من ذلك أن تمّ التركيز على جعل «الشر» في مواجهة «الخير» باعتبارهما قطبين رئيسين لتحريك جميع الشخصيات التي تظهر على يد الأدباء في أعمالهم الإبداعية وكأنما هي أشباه موجودات حيّة وحقيقية تسعى بيننا في الأمكنة والأزمنة جميعاً ودونما استثناء. وأضحت المواجهة بين الشر والخير في الأعمال الأدبية تحقق نوعاً من أحد احتمالين للنفس الإنسانية، سواء بالنسبة للمبدع أم القارئ والمتلقي عامة، هما الشعور براحة الانتصار والفخر والراحة، أو الشعور بالخسارة والخذلان والقلق، تبعاً لحالة كل قارئ في نظرته إلى تحريك المبدع شخصياته على مسرح الأحداث، وتوجيه فاعلياته السلوكية المختلفة. ولذا بدا من الضروري ـ بحسب هذا الاتجاه ـ أن يلجأ الأدباء إلى غير قليل من عدم التوضيح أو الغموض «الموحي» يلفّون به بعض شخصياتهم على الأقل، إضافة إلى إخفاء بعض الأحداث وتلخيص آخر وحجب المعطيات عن فئة ثالثة، بينما يتمتع نوع آخر منها بغير قليل من الشرح المسهب والإطالة التوضيحية. حتى لقد تحصّل لدى بعض القرّاء والنقاد أيضاً أن «الشر المسبّب للألم» في العمل الأدبي ـ كما في الواقع ـ يعبّر عن حالة انقسام «الذات» الإنسانية الفردية، وما يؤدي إليه هذا الانقسام من تنافر وشذوذ وعدم انسجام وفُرقة وهدم وتشتيت وإتلاف، وغير هذه من صنوف أخرى لا تقع تحت حصر. لا شكّ أنّ مدارس النقد الأدبي التي لم يطلع أتباعها على ما تقدمه معطيات التحليل النفسي، سيواجهون كلامي هذا بالاستنكار، لغير سبب تقدّمه أطروحاتهم التي ترى ـ في جملة ما تراه ـ أنّ الجهاز النفسي يتمتع بنوع من الثبات لا يتيح لكل هذه الأمور أن تظهر، وأن الناس يمتلكون جهازاً نفسياً متشابه التكوينات، فلا مجال إلى تلك الافتراضات المتبعة للمشتغلين في النقد كلها. أما الردّ على هذا الاعتراض فلا يتمّ بالمجادلة، بل برجاء أن يتجه بعض زملائنا المنكرين إلى الاطلاع على ما توصّلت إليه البحوث المخبرية والتجارب النفسية من خلال دراسات حديثة، غدت تستخدم أجهزة وأدوات غاية في الدقة والضبط ورصد النتائج. |
|