|
مجلة الحوادث أوراق العمر الماضي بدأت تتسرب إليها ألوان الخريف لملمتها قبل أن تصير (دهب النسيان) كما تقول أغنية أسى رحبانية.. بهذه العبارة الشعرية صدر د. صباح قباني لمذكراته (من أوراق العمر. مسيرة حياة في الإعلام والفن والدبلوماسية) والقارئ يظل يسمع نغمات الأغنية الفيروزية الجميلة كموسيقا خلفية للمذكرات ويكتفي قباني بالحنين من دون الحزن الذي قد يلازمه و(بالنوستالجيا) دونما كآبتها الرومانسية.. بل ويحاول إبهاج قارىء المذكرات بكثير من خفة الظل في زمن ثقيل الظل وربما لأن القلب العربي لا ينقصه الحزن ولا الحنين.. ولذا لا تخلو سطوره من حكايا غاية في الطرافة وبعضها يؤرخ لذاكرة دمشق الاجتماعية, ثم إننا نطالع في الفصل الخاص بتأسيس د. قباني للتلفزيون السوري جزءا من تاريخ سورية في الحقل الإعلامي عبر ذكريات ولادة ذلك المنبر الهام وطفولته على يدي قباني ورفاقه (هكذا يدعو في مذكراته معاونيه وموظفيه ونجوم التلفزيون وقتها). لماذا شنقتها ياغليظ!! ففي حديث عن السينما في دمشق (1938) حين كان صبيا صغيرا في تلك الأيام كان مشاهدو السينما في (دمشق) وأكثرهم من الطبقات الشعبية يتصورون أن الفني الذي يقوم بتشغيل الأفلام على أجهزة القرص هو المسؤول عن أحداث الفيلم, وهكذا كان المسكين يتلقى اللعنات وهو يتسلى باستعراض الخارجين من القاعة حين لا تعجب أحدهم خاتمة الفيلم, كما حدث له حين خرج متفرج مجهشا بالبكاء على خاتمة الملكة الجميلة ماري أنطوانيت المقتولة بالمقصلة لاعنا الفني وشاتما, لماذا شنقتها ياغليظ! أكثر الخطايا عذوبة وبراءة نعايش طفولة د. صباح في مذكراته من خلال حكايات عذبة تخص الذاكرة الجماعية الشامية, وأذكر على سبيل المثال حكايات لها صلة بأمر عزيز جدا على قلوب (الشوام) هو عشق السكاكر والحلويات والبراعة في صناعتها, ومن أجمل فصول المذكرات المشهد الذي نرى فيه نزار قباني وأخوته يعملون في الإجازة الصيفية في معمل الوالد والتفاصيل الشهية لطرق صناعتها في ذلك المعمل المبتكر الشهي ) وهو الأول في حقل توضيب الفستق واللوز الملبسين بالسكاكر). ونعايش طفولة صباح من خلالها كهذه التي اعترف فيها بأن مهمته اقتصرت على لف السكاكر كصبي صغير كما اعترف بأكثر الخطايا براءة حب الأطفال للسكاكر. ومن كان منا بلا خطيئة لطيفة كهذه فليرمه بحبة (ملبس) أو قطعة (نوغا)! انسجم نزار قباني في المسرحية ومن أطرف الحكايا في المذكرات حكاية نزار قباني مع دوره في مسرحية المدرسة كجارية من جواري شجرة الدر حين كان صبيا وعمره 14 سنة في المدرسة واسمها (الكلية العلمية الوطنية) وكنا ندعوها في الشام (مدرسة العائدي) ومن أساتذتها منير بعلبكي والمفكر المصري محمد أحمد خلف الله وشعراء ولغويون وعلماء من أمثال خليل مردم بك وأمجد الطرابلسي وأديب التقي وجميل الميداني وراشد القوتلي وسواهم وهي مدرسة شامية شهيرة أسسها الدكتور أحمد منيف العائدي عميد كلية الطب في دمشق ووالد الاقتصادي الكبير عثمان العائدي وجد الفندقي المعروف غسان العائدي. في تلك المدرسة الطليعية بحقو في حفل التخرج ظهر نزار قباني (بجدائل) للمساهمة في خنق زوج شجرة الدر كجارية من الجواري, أما دور الملك /الزوج فلعبه الطالب عبد الهادي دركزلي وكان دور نزار في المسرحية يقتضي وضع مخدة على وجه (الملك) لخنق أنفاسه وقد حدث أن اندمج نزار في الدور وأطال في الضغط بالمخدة حتى كاد عبد الهادي المسكين يغمى عليه لولا إسدال الستارة وإنقاذ »الملك). مصر التي في خاطري وفي دمي من العناوين: بيتنا, مدرستنا, باريس (والدكتوراه هناك) الإذاعة, التلفزيون وسواها, والخاص في هذه المذكرات حميم, والعام حميم أيضا ويمتزجان بلا افتعال وينبثق كل منهما عن الآخر, علاقة قباني مع الوطن قصة حب كبيرة, ولعلها قصة الحب الوحيدة التي نستطيع أن نقول فيها: »أحبك إلى الأبد) دون أن نكذب أو نبالغ.. فالوطن هو الحب الكبير الأوحد وإلى أبدنا. وفي الصفحات المكرسة لمذكراته كأول مؤسس للتلفزيون العربي السوري حين لم يكن المبنى البديع قائما في ساحة الأمويين, ندرك مدى العبء الذي ألقي على عاتقه بعد عودته من باريس حاملا شهادة الدكتوراه وطامحا في لخدمة بلده الحبيب سورية, ومدى شعوره بالمسؤولية, دون الانفراد باتخاذ القرارات, وهنا تبدو المذكرات جماعية يكاد يغيب فيها كاتبها مفسحا المجال للحديث عن رفاق الدرب في مرحلة التأسيس لأحد أهم المرافق الإعلامية السورية بكل دفء القلب وهو ما نجده لدى الكاتب في حديثه عن أوطان عشقها (مثل مصر الحبيبة حيث عاش والده لفترة ربع قرن) والتي يحمل لها المؤلف الكثير من الانتماء القلبي والفخر بحمل جواز سفر»الجمهورية العربية المتحدة) أيام الوحدة بين سورية ومصر, واعترافه دونما ديبلوماسية بحزنه يوم انكسار الوحدة السورية- المصرية, وهي مذكرات تستعصي على التلخيص لأن د. صباح قباني قام بذلك وهو يخطها وما من كلمة فيها تقبل الحذف وما من سطر قابل للتلخيص فقد فعل صاحبها ذلك كمن يقطر حقلا من الياسمين الشامي في زجاجة عطر. بدايات النجمين دريد لحام وعبد الحليم حافظ نجد في المذكرات لوحات وصفحات من التاريخ الاجتماعي والنفسي لدمشق القديمة حيث نطالع من خلال أسرة المؤلف عادات المدينة حين كان طفلا وكنا نركب عربات تجرها الأحصنة وندخل إلى البيت الشامي الأصيل الجميل (بيته) ونتعارف مع المآكل الشامية وأمزجة الناس. في هذه المذكرات كادت »الأنا) تغيب وحضرت (النحن) و(الآخر) والتواضع الإنساني عمودها الفقري ولذا تتحدث عن الآخرين وينسى أحيانا صاحبها نفسه.. فيروي لنا أسرار بدايات الرائع دريد لحام وعبد الحليم حافظ الذي كانت إذاعة دمشق أول من احتضنته كالرحابنة, وبقية المبدعين الذين ساعدوا صباح قباني في فترته الإذاعية التلفزيونية. عمري صار جميلا بهم يقول د. صباح قباني: »في أعماقي لوثة حب الفن) وقد كتب مذكراته بكثير من الفن القصصي وكثير من السخاء الروحي.. إذ يجد أن عمره صار جميلا بالآخرين(أصدقاء العمر الجميل) في مناخات دمشق الخصبة إنسانيا وإبداعيا.. أما عن أفضاله فلا يذكرها بكلمة على العكس من معظم كتب السيرة الذاتية العربية. مجلة الحوادث |
|