تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


نص واحد ودلالات متعددة

كتب
الأربعاء 2/4/2008
طه حسين الرحل

ينفتح عنوان هذه الرواية : ) تحت سقف واطئ ) على دلالات متعدّدة , ويشي بفضاء زماني / مكاني ضاغط , وشروط قاسية تحكم مسارات ومصائر أبطالها , محقّقا بذلك استباقا سرديا يضع المتلقي في جوّها العام , ويحفّزه على القراءة , ويفتح أفق التوقّعات لديه .

وينهض السرد فيها على لسان الراوي بضمير المتكلم ثم يتوالى بالصيغة ذاتها مع اختلاف أسماء الرواة والعناوين والمشاهد بين فصل وآخر مما يتيح لكل شخصية التعبير عن نفسها ومواقفها وهواجسها. فيبدأ الفصل الأول بالشخصيتين المحوريتين ( رؤى وسعد) وقد ركبا ( التاكسي ) من ساحة الجامعة إلى باب أنطاكية ليبدأا رحلتهما مع تاريخ المدينة , فتحضر حلب القديمة بحاراتها وتفاصيلها وسكانها وتنوعها , بماضيها وحاضرها , وحتى بروائحها وطعومها , الأمر الذي يجعلها رواية حلبية بامتياز . وإذا كان سعد ورؤى سيهربان من محاضرة ( فقه اللغة ) فلكي يذهبا إلى ما يمكن تسميته ب ( فقه الحياة ) أي أنهما يهربان من الجامعة إلى المجتمع , ومن التعاليم إلى التجربة العريضة المفتوحة على كل الاحتمالات والمتاهات .‏

وعبر اللقاء بينهما في حضرة الملكة ( القلعة ) يعود بنا الراوي ( سعد ) إلى مرحلة السبعينيات بكل ما فيها من صخب وحراك سياسي واجتماعي وأحلام وخيبات على المستوى الفردي والعام . وهو إذ يفعل ذلك فإنما يفعله بشكل متوازن وبعيد عن الانفعال وعن النظرة الضيقة للحقائق والتفاصيل , تلك النظرة التي لا ترى الخطأ إلا عند الآخرين . ولعل الابتعاد زمنياً عن تلك المرحلة الحرجة والحسّاسة جعل مراجعة النفس ومحاكمة الأحداث بهدوء وتوازن أمراً ممكناً .‏

وإذا كانت الرواية قد ذكرت المدينة باسمها وهي حلب وشوارعها وخاناتها وأسواقها وأبوابها وقلعتها وتاريخها , فإنها تذكر الأحداث والشخصيات بأسماء مختلفة تدل على الأصل بالإيحاء والمقاربة ,لا بالتصريح والتحديد .‏

وقد أفرزت المحاكمة المتوازنة للأحداث من زوايا النظر المختلفة باختلاف الرواة ومواقعهم الفكرية والإيديولوجية جوّا من الموضوعية . فمع أن الرواية مكرسة أصلا لوصف العنف المتبادل بين القوى المتصارعة, لكنها لم تتحيّز لطرف على حساب الآخر , بل تركت ذلك للمتلقي ليستنتج بنفسه الحكم على تلك المرحلة , من دون إقحام لرأي معيّن .‏

ولا ينحصر الفضاء المكاني والاجتماعي بمدينة حلب وحدها بل ينفتح على التنوّع فنرى في أحداثها وتفاصيلها السوري والفلسطيني كما نرى أبناء الريف - القريب والبعيد - وتحضر تبعا لذلك الأثنيات الدينية والقومية ومشاكل المرأة والرجل وصراع الطبقات ومشاكل الأجيال والآباء والبنون . وهكذا تغدو حلب فضاء مفتوحاً ومتصلاً بالعالم من كندا و أوروبا حيث هاجر أعمام رؤى , إلى حضور المفكرين والأدباء والمنظرين العالميين بآرائهم وأسمائهم لدى المثقفين المتجادلين والمتصارعين .‏

وقد أخلصت الرواية للتوثيق ولكن في إطار حكائي فني يتداخل فيه الواقع بالمتخيّل , من دون إقحام للآراء المسبقة , أو تدخّل مباشر من المؤلف . ونجد فيها انتصارا لفكرة الحوار والتواصل على الصدام والمصادرة , ولفكرة التأني والهدوء على العجلة والتدمير , إلا إنها استمرت في عرض شرائح الأفكار والأحداث والسجالات دون سحب المقود أو الإشارة إلى لوحة معينة في المعرض , ولم يتم ذلك انطلاقاً من عدمية الرواية بل إخلاصاً للروح الفنية وللموضوعية, ما أمكن , في معالجة الأحداث والأفكار .‏

وتنتهي الرواية بسعد ( الشخصية الرئيسة ) وقد وصل إلى لحظة مفصلية في حياته وتاريخه , حيث الأصحاب تفرقوا والتحق بعضهم بمنظمة التحرير الفلسطينية وبعضهم الآخر هاجر أو اختار المنفى , ولم يعد لديه غير الذكريات المحزنة والجميلة .‏

لقد أعطانا نذير جعفر رواية مهمة يتصارع فيها الحب والخوف , واليأس والأمل , فأضاء ببراعة فترة مفصلية وأحداثاً شديدة السخونة مررنا بها , وظني أن هذه الرواية ستبقى طويلاً علامة على تلك المرحلة التي لا يمكن تجاهلها أو نسيانها.‏

الكتاب : تحت سقف واطئ رواية - المؤلف : نذير جعفر - الناشر : نون 4 حلب 2008‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية