تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حركات التحرر ترسم نهاية الاستعمار

الانترنت -عن موقع: counter punch
ترجمة
الأحد 24/2/2008
ترجمة: رندة القاسم

ذات مرة قال رجل حكيم: المغفل يتعلم من تجاربه والإنسان الذكي يتعلم من تجارب الآخرين (وأستطيع أن أضيف:المعتوه لا يتعلم حتى من تجاربه الخاصة).

إذاً ما الذي يمكن أن نتعلمه من كتاب يظهر بأننا لم نتعلم من التجارب?‏

كل ما ذكر هو توصية للكتاب.. وأنا عادة لا أوصي باعتبار كتاب قاعدة, ولا حتى كتبي.. ولكن هذه المرة أشعر بالحاجة لأن استثني أ.إنه كتاب (ويليام بولك): (سياسيو العنف) والذي ظهر حديثاً في الولايات المتحدة.‏

(بولك) كان في فلسطين عام ,1946 في قمة الكفاح ضد الاحتلال البريطاني, ومنذ ذلك الحين بدأ بدراسة تاريخ حروب التحرير.‏

وفي أقل من ثلاثمئة صفحة يقارن حركات التمرد من الثورة الأميركية وحتى الحروب في أفغانستان وسنواته في مجموعة التخطيط التابعة لإدارة الدولة قد أدت إلى انهماكه بالصراع الإسرائيلي -الفلسطيني, والنتائج التي توصل لها تحمل استنارة.‏

وأنا مهتم بوجه خاص بالموضوع فعندما انضممت ل (أرغون) في الخامسة عشرة, طلب مني قراءة كتب عن حروب التحرير السابقة, خاصة البولندية والإيرلندية.‏

وقد قمت بقراءة كل كتاب يقع تحت يدي ومنذ ذلك الوقت اتبعت حروب التمرد والعصابات عبر العالم, مثل تلك التي في مالايا, كينيا, جنوب اليمن, جنوب افريقيا, افغانستان, فيتنام, والمزيد, وفي إحداها, وهي حرب التحرير الجزائرية, كان لي اهتمام شخصي.‏

فعندما كنت أنتمي ل (أرغون) عملت في مكتب محام متخرج من أوكسفورد وأحد موكلينا كان ضابطاً بريطانيا كبيراً في حكومة الانتداب.‏

كان ذكياً, لطيفاً, ومرحاً, وأذكر أنني ذات مرة فكرت كيف يستطيع شخص ذكي كهذا اتباع سياسة حمقاء?‏

ومنذ ذلك الحين كنت كلما تعرفت على المزيد من حركات التمرد أضحى عجبي أكبر, فهل من الممكن أن تكون حالة الاحتلال بحد ذاتها والمقاومة هي ما يدفع المحتلين لسلوك غبي, محولة حتى الأذكى إلى معتوهين?‏

قبل سنوات عرضت ال (بي بي سي) سلسلة طويلة حول مراحل التحرير في المستعمرات البريطانية السابقة, من الهند حتى الجزر الكاريبية, وقد خصصت حلقة لكل مستعمرة, وعرضت مقابلات مع قادة استعماريين سابقين وضباط في جيوش الاحتلال ومقاتلين تحرريين وشهود عيان, لقد كان المسلسل لافتاً للانتباه ومحبطاً.‏

محبطاً لأن الحلقات كانت تعيد نفسها تماماً, فحكام كل مستعمرة أعادوا الاخطاء التي ارتكبها أسلافهم في الحلقة السابقة, فقد حملوا نفس الأوهام وعانوا من نفس الهزائم وأحد لم يتعلم أي درس من سلفه.‏

في كتابه وصف (بولك) حركات التمرد الرئيسية خلال المئتي سنة الماضية مقارناً بعضها ببعض وواضعاً نتائج واضحة.‏

وبالتأكيد كل حركة تمرد فريدة ومختلفة عن غيرها لأن الخلفيات مختلفة وكذلك ثقافة الشعوب المحتلة والمحتلين, فالبريطانيون يختلفون عن الهولنديين وكلاهما يختلف عن الفرنسيين.‏

(جورج واشنطن) هو غير (تيتو) و(هوشة منه) غير (ياسر عرفات) ومع ذلك, هناك تشابه مدهش بين كل حركات التحرر النضالية.‏

بالنسبة لي, الدرس الرئيسي هو مايلي: في الوقت الذي يحتضن به الشعب الثائرين, فإن نصر الثورة سيغدو محتماً.‏

إنها قاعدة حديدية: فالتمرد المدعوم من الجمهور مصيره الفوز بغض النظر عن التكتيكات التي تتبعها حكومة الاحتلال.‏

فبإمكان المحتل أن يقتل دون تمييز أو يلجأ لطرق أكثر إنسانية, يمكنه أن يعذب حتى الموت أسرى المدافعين عن الحرية أو يعاملهم كسجناء حرب فلا فرق هنا على المدى الطويل.‏

فآخر محتل قد يركب سفينة في احتفال مهيب كما حدث مع المفوض الأعلى البريطاني في حيفا, أو يقاتل لأجل مكان في آخر طائرة مروحية, كما حال الجنود الأميركيين الأخيرين على سطح السفارة الأميركية في (سايفون) ولكن الهزيمة مؤكدة منذ اللحظة التي يصل فيها التمرد إلى نقطة محددة.‏

الحرب الحقيقية ضد الاحتلال تأخذ مكاناً في عقول الشعوب المحتلة, لذا المهمة الأساسية للمدافعين عن الحرية ليست القتال ضد الاحتلال, كما قد يبدو الأمر, ولكن كسب قلوب الشعب.‏

ومن جهة أخرى, المهمة الأساسية للمحتل لا تكمن في قتل المدافعين عن الحرية, ولكن منع الشعب من تطويقهم, فالمعركة لأجل قلوب وعقول الشعب, أفكارهم ومشاعرهم, وهذا هو أحد أسباب الفشل الدائم للجنرالات في صراعهم ضد المدافعين عن الحرية, والضابط العسكري هو الأقل ملائمة لمهمة كهذه, فكل تنشئته, وكل طريقة تفكيره, وكل ما تعلمه معاكس لهذه المهمة المركزية.‏

ف (نابليون) كان عبقرياً عسكرياً ولكنه فشل في جهوده لقهر مدافعي الحرية في اسبانيا (حيث نشأت كلمة حرب عصابات) ولم تكن هزيمته أقل من هزيمة أغبى جنرال أميركي في فيتنام.‏

فضابط الجيش هو تقني ومدرب للقيام بعمل معين, وهذا العمل لا علاقة له بالصراع ضد حركة تحرر, رغم الملاءمة الظاهرية فحقيقة أن الدهان يتعامل مع الألوان لا تجعل منه رساماً, ومهندس مائي ناجح لا يصبح حداداً ماهراً, الجنرال لا يفهم جوهر التمرد الوطني, ولذلك لا يمكنه الاستحواذ على قواعده.‏

فعلى سبيل المثال, الجنرال يقيس نجاحه بعدد القتلى من الأعداء, ولكن المنظمة المقاتلة المتمركزة تحت الأرض تغدو أكثر قوة كلما قدمت المزيد من المقاتلين القتلى, والذين يسمون شهداء.‏

الجنرال يتعلم كيف يجهز لمعركة ويكسبها, ولكن أعداءه مقاتلي حرب العصابات يتفادون المعركة بالأصل.‏

الأيقونة (شي غيفارا) يحدد جيداً المراحل التي تمر بها حرب تحرير كلاسيكية: فأولاً هناك مجموعة مسلحة بشكل جزئي تلجأ لمكان بعيد, رقعة يصعب الوصول إليها (أو ضمن السكان القرويين), تقوم بضربة موفقة ضد السلطات وينضم إليها المزيد من القرويين المستائين, والشباب المثاليين, إنها تتصل بالسكان وتتبع منهج الضربة والتراجع في الهجمات ومع توسع الصفوف بمزيد من المنضمين إليها تهجم على فرقة من العدو وتحطم عناصرها القيادية, وبعد ذلك تنصب هذه المجموعة معسكراً شبه دائم يملك مواصفات حكومة مصغرة.‏

وللنجاح على طول الطريق يحتاج المتمردون إلى فكرة تلهب حماسة الشعب الذي يتحد حولهم ويمنحهم المساعدة والملجأ والاستخبارات.‏

ومن هذه المرحلة يغدو أي شيء تقوم به سلطات الاحتلال مفيداً للمتمردين, فعندما يقتل مدافعو الحرية يأتي آخرون كثر ويوسعون الصفوف وعندما يفرض المحتلون عقاباً جماعياً على الشعب فإنهم يزيدون من كرههم لهم ومن التعاون المتبادل بينهم وبين المناضلين, وعندما ينجحون في أسر أو قتل قادة نضال التحرير, سيأخذ مكانهم قادة آخرون.‏

وطالما نجحت سلطات الاحتلال في إحداث الفرقة بين مدافعي الحرية واعتبرت ذلك نصراً أساسياً, ولكن كل العناصر ستستمر في محاربة المحتلين بشكل منفصل, وتتنافس مع بعضها البعض كما تفعل فتح وحماس الآن.‏

من المؤسف أن (بولك) لم يخصص فصلاً للصراع الإسرائيلي -الفلسطيني ولكن حقاً هذا ليس ضرورياً, إذ نستطيع أن نكتبه بأنفسنا وفق فهمنا.‏

عبر أربعين سنة من الاحتلال, فشل سياسيونا وقادتنا العسكريون في الصراع ضد حرب العصابات الفلسطينية, وهم لم يكونوا أكثر حماقة ولا أكثر قسوة من سابقيهم:‏

الهولنديون في اندونيسيا, البريطانيون في فلسطين, الفرنسيون في الجزائر, الأميركيون في فيتنام, السوفييت في افغانستان لقد تفوق قادتنا عليهم جميعاً في غرورهم واعتقادهم أنهم الأذكى وأن الرؤوس اليهودية ستستنبط اختراعات جديدة لم يفكر بها أحد من قبل.‏

ومنذ نجاح ياسر عرفات في كسب قلوب الشعب الفلسطيني وتوحيدهم حول الرغبة المتحرقة لتحرير أنفسهم من الاحتلال, منذ ذلك الوقت حسم الصراع..‏

ولو كنا حكماء لوصلنا إلى تسوية سياسية معه في ذاك الحين, ولكن سياسيينا وجنرالاتنا ليسوا أكثر حكمة من الآخرين.‏

ولذا كان علينا المضي قدماً في القتل والتفجير والتدمير والنفي, مع إيمان أحمق بأننا لو ضربناهم مرة أخرى فإن النصر الذي نتوق إليه سيظهر في نهاية النفق, لنكتشف أن النفق المعتم يقودنا إلى نفق أكثر عتمة.‏

وكما يحدث دائماً, عندما لا تحرز منظمة تحريرية أهدافها ستنبثق أخرى أكثر تطرفاً إلى جانبها أو بدلاً منها وسوف تفوز بقلوب الشعب, منظمات مثل حماس تتم لها الغلبة مقابل أخرى مثل فتح.‏

الحكومة الاستعمارية التي لم تصل إلى اتفاق في الوقت المناسب مع منظمة أكثر اعتدالاً, ستجبر في النهاية على التوصل إلى تفاهم مع أخرى أكثر تطرفاً.‏

الجنرال (تشارل ديغول) نجح في صنع السلام مع ثوار الجزائر قبل الوصول لتلك المرحلة, فمليون وربع مليون مستوطن سمعوا ذات صباح بأن الجيش الفرنسي سيكف عن العمل في تاريخ محدد ويعود للوطن, عندها نجا المستوطنون بحياتهم دون أي تعويض وقد كان معظمهم من الجيل الرابع ولكننا لا نملك ديغول وقدرنا أن نمضي إلى مالانهاية.‏

لا يسعنا سوى الابتسام أمام العجز المثير للشفقة لسياسيينا وجنرالاتنا الذين يندفعون من مكان لآخر دون أن يعلموا أين يكون الخلاص, ماذا يفعلون? تجويع الجميع حتى الموت? لقد أدى هذا لانهيار الجدار على حدود غزة -مصر, قتل قادتهم?‏

لقد قمنا بقتل الشيخ أحمد ياسين وآخرين كثر, إعادة احتلال كل قطاع غزة? لقد قمنا بغزو غزة مرتين, هذه المرة سنقابل ثائرين ذوي قدرات أكبر, إنهم متجذرون في السكان, كل دبابة كل جندي سيكونون أهدافاً, الصياد سيصبح الفريسة, ما الشيء الذي يمكننا عمله, ولم نقم به من قبل?‏

أولاً: ندفع كل جندي وسياسي لقراءة كتاب (وليام بولك) إلى جانب كتب عن النضال الجزائري.‏

ثانياً: نقوم بما قامت به كل حكومات الاحتلال في الدول التي انتفض فيها الشعب وهو الوصول إلى تسوية سياسية بحيث يعيش كلا الجانبين معاً.‏

ورغم ذلك لا شك في النهاية, والسؤال المتبقي هو كم من القتل, كم من الدمار, كم من العذاب سيقع قبل أن يصل المحتلون إلى النتيجة التي لا مهرب منها. كل قطرة دماء تسفك هي قطرة دماء ضائعة‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية