|
ثقافة جاء موريس قبق كغيمة أوديمة أودعت حمولتها من أسباب الخصب في أرض شعر الستينيات، ثم تلاشت صمتاً إرادياً مازال يثير تساؤلات، وينبت أجوبة لا تشفي ظمأ طالب معرفة، وهكذا بقي الصمت لغزاً محبباً. في الهزيع الأخير من عمر موريس /مرايا مهمشاتٌ، ووردُ/ ما حكى لي عنها، أفاء ظلالاً /لم تكن تحتها شظاياه تبدو/ قلت: طبع الأشعار أن يسكن الجفنُ، /ويذوي في راحة الكف خدُّ/ قلت ما قلت، وانتظرت طويلاً /أرتدي هاجساً يروح ويغدو/ هاجساً سائلاً: ألم يأتِ موريس؟/ مجيباً: موريس لم يأتِ بعدُ! أبيات لعبد القادر الحصني الذي وقف يوماً مبهوراً أمام مجموعة «الحب واللاهوت» الوحيدة التي صدرت للشاعر الحمصي موريس قبق عام 1962 وكان حينها - الحصني - طفلاً (كما يذكر في كتابه أوقفني الورق وقال لي) أواخر الستينيات سأله: لم توقفت عن كتابة الشعر؟ فأشار قبق إلى أمرين: زواجه من حبيبته وسعيه لتأمين حياة كريمة لها، والأمر الآخر ضيقه من النظّامين المنبريين آنذاك! لم تقنع تلك الإجابة عبد القادر الحصني إلى أن التقاه ثانية مطلع التسعينيات فعاجله موريس بإجابة سبقت السؤال: أرجوك لا تسلني عن الشعر! قريباً تمر من الأعوام ثلاثة عشر عاماً على رحيل قبق (في 19 كانون الثاني 1996) في حمص ابتكر أصدقاء ومحبون وشركاء همًّ واحد طريقة أخرى لإحياء الذكرى فأقدموا على طباعة ديوان قبق القديم بالإضافة إلى عدد من القصائد التي عثرت عليها رفيقة دربه السيدة منى عبد المسيح ،واحتفاء بذلك الوليد تداعوا جميعاً لممارسة طقوس التذكر وفتح أبواب مغلقة في الذاكرة، فكانت جلسة أدبية نقدية حميمة شارك فيها عدد من الأدباء والنقاد. الباب المهجور الأديب الباحث حنا عبود ترك لمفاتيح الذاكرة أن تقابل مغاليق جلسات حميمة جمعته بالراحل موريس قبق منذ أكثر من أربعين عاماً، ورغم أن تلك الجلسات لم تتعد المرات السبع، إلا أن امتداد زمن كل منها أتاح للرجلين معرفة عميقة بالآخر، وهكذا اختار عبود باب الإخوانيات المهجور في الأدب للدخول في عالم موريس قبق، فقال موجزاً الجانب المتعلق بالشعر: إن لموريس فلسفة روحانية وعقيدة أقرب إلى البوذية، وما كل ذلك القلق في شعره إلا نوعاً من ملاحقة التطور الروحاني لديه، يوجز عبود أسباب صمت قبق بما قاله له الأخير مرة: الصمت مع الأصفياء جريمة والحديث مع الكذبة خيانة؟ رغم مرضه رفض تعاطي الدواء - كما يقول عبود - فهو يريد أن يترك للروح حرية أن تختار وأن تقرر ما إذا كان جسده مستقراً جيداً لها أم لا، وإذا لم تجده كذلك فلتغادر! الحداثة الشعرية تناولت الشاعرة دعد طويل قنواتي مجموعة شهيد النهد الأسود التي صدرت مؤخراً وبحثت في قصيدتي (شهيد النهد الأسود، ومصاهر النواة) عن خصائص الحداثة الشعرية وترى أن القصيدتين تحققان معظم مقومات تلك الحداثة من انقطاعهما القوي والواعي عن الموروث وإعلاء الفردي على الاجتماعي واللاوعي على الوعي... تتناول القصيدة الأولى التمييز العنصري أما الثانية فتتناول مصير الأرض في ظل الضياع بين الشك واليقين، في مسألة الإيمان أشارت الشاعرة في معرض دراستها إلى سعة ثقافة الشاعر قبق وتفاعله العميق مع كل ما اطلع عليه، وإلى غنى قاموسه وتردد الانزياحات اللغوية وإلى غياب كامل - أو شبه كامل- لأسماء الموصول والإشارة وندرة في الصفات والظروف ما يجعل من مفرداته أفعالاً وأسماءً تشير إلى فعل وطاقة وحركة. الشعر الحضاري في مداخلة نقدية للشاعر مصطفى خضر قال: انحاز قبق مطلع الستينيات إلى نظام إيقاع التفعيلة أو ما كان يسميه مع بعض أصدقائه بالشعر الحضاري ويرى خضر أن حداثة موريس قبق التي صرح عنها في أشعاره أو في حواراته الشفوية وغير الشفوية كانت أكثر كثافة وامتلاءً وعمقاً من مادة الديوان الشعرية بشكل عام، وقال: إذا عدنا إلى التاريخ الذي ذيل به الشاعر كل قصيدة من قصائده المنشورة فسنجد ثلاثاً منها كتبت عام 1957، واحدة عام 1958، واثنتين عام 1959، وثلاثاً عام 1960 وفق نظام إيقاع التفعيلة وخمساً عام 1961 اثنتان منهم على نظام إيقاع التفعيلة، وواحدة عام 1962، كيف تعبر إذاً محاولة قبق في الحداثة الشعرية عن نفسها؟ إن القصائد القليلة التي كتبها تعلن عن الحرية على نحو فني: تحرير الجنس واللاهوت، وتحرير الشرق أعني تحرير التاريخ - وفقاً لمصطفى خضر - وقد تكون هذه العنوانات كبيرة لم تستطع تجربة قبق أن تعالجها على نحو فعال وملهم. اشتغل قبق على صورة شعرية تحاول أن تكون جديدة ومختلفة، كما كان شاعر رؤيا ينتمي إلى قضية تؤرقه، هي قضية الحرية بمفهومها الشامل، كان شاعر رفض وتحرير ينظر إلى الرفض والحرية كمدخلين إلى الحداثة الشعرية. لماذا صمت؟ ثمة سؤال مازال يتردد في الوسط الأدبي: لماذا توقف موريس قبق عن كتابة الشعر؟ هل اختار الصمت حقاً، أم أنه اضطر إلى ذلك بفعل ضغوط داخلية وخارجية؟ يرى الشاعر عبد القادر الحصني (نفس المرجع السابق) أن تجربة قبق الشعرية على صعيد المضمون انبثقت من مشكلة الحب، الحب في براءته الأولى حيث الجسد والروح أقنوم واحد، لكن التجربة تصطدم بالموروث الذي لا يتيح الحب للشاعر إلا مدنساً، فيثور ويطالب بشرق جديد يحمل الخلاص للإنسان، ثم تنكسر التجربة وتضع خاتمتها، أما على صعيد الشكل - يقول الحصني - قدمت قصيدة قبق على نظامي البيت والتفعيلة تجربة متقدمة يصعب عليها تجاوز ذاتها، وهكذا تكون التجربة قد أعطت كل ما لديها.. صمت موريس لأن تجربته الشعرية قد اكتملت. من جهة ثانية يرى الدكتور رضوان قضماني في مداخلة أرادها بعيدة عن الأكاديمية أن موريس ظهر في مرحلة شعراء رومانسيين عرفوا واشتهروا بتأسيس مدرسة بدأت في حمص ثم انتشرت، ولم يُنسب موريس قبق إليها، واحتار الدارسون إلى أين ينسبونه، إلى الرومانسية أم إلى ما بعد الرومانسية؟ ويؤكد: إننا حين ننظر إلى شاعر ،نتعامل معه على أنه نص وهكذا كان قبل موريس نص وما بعده نص وأعتقد - والكلام للدكتور قضماني- أن مشكلة موريس تكمن في تفوقه على النص السابق له (الاتجاه الرومانسي ممثلاً بعبد الباسط الصوفي ووصفي القرنفلي وعبد السلام عيون السود) لكن نصه لم يتوافق مع النص الذي جاء بعده! لقد صمت عام 1963 تقريباً حيث فورة جيل الستينيات في قصيدة الرؤيا فمن لم يتمكن من مواكبة التيار الجديد في الشعر ذهب إلى الظل، وهكذا خلقت لديه إشكالية ربما لم يستطع حلها إلا بالصمت لوقوعه في الهوة بين نصّين. وفي مداخلة أخرى يعتقد الأديب نور الدين الهاشمي أن موريس قبق كان أشبه بشهاب توهج وقدم ما عنده ثم توقف وانطفأ ولو تابع لكرر نفسه، بينما أصر الأديب الناقد حنا عبود على أن السبب الحقيقي لصمته كان قد أوجزه بعبارته: الصمت مع الأصفياء جريمة، والحديث مع الكذبة انتحار، فثمة أحداث جرت آنذاك دفعت به - وهو الشخص المبالغ بحساسيته- إلى اختيار الصمت وهجرة الشعر والتفرغ لصناعة العطر والتجارة به. الفسحة التي ضاقت لا نعتقد أن ثمة من هو أقرب لموريس قبق من حبيبته ورفيقة دربه السيدة منى عبد المسيح التي خنقت الدموع صوتها وهي تقرأ بعض كلمات رغم مرور 13 عاماً على رحيل الزوج - الصديق، ومما قالته إضافة إلى التذكير ببعض صفاته (كالكرم، والطيبة، والنزق، والاعتداد بالنفس): كان موريس يرى الشعر شفافية وحلماً ورؤيا! وكلما سئل عن أسباب صمته يتهرب، والحقيقة أن لذلك أسباباً عدة، فمنذ زواجهما انشغل قبق بتأليف كتاب الإعراب التطبيقي المتكامل، بعدئذ بدأت الحرب الأهلية في لبنان وتلاها الاجتياح الإسرائيلي الذي تسبب بإقدام خليل حاوي على الانتحار ما أثر بشكل بالغ على موريس الذي قال لأصدقائه: معه حق خليل.. هذا منتهى الذل! لقد ضاقت فسحة الحرية التي كان يعشقها، فسقطت الشفافية وهرب الحلم وانحجبت الرؤيا، فصمت. |
|