|
آراء كان ذلك في خريف عام 272 والجيوش الرومانية الغازية تحاصر (تدمر) عروس الصحراء العربية.
تعود حضارة (تدمر) إلى مطلع الألف الثاني ق.م وقد سكنها الكنعانيون ثم امتزجت مع البابليين والآشوريين ثم سكنها الآراميون والعرب وازدهرت كمملكة عربية في فترة ازدهار البتراء لدى الأنباط وكان سكانها من القبائل العربية يتحدثون اللغة العربية ويكتبونها بالأبجدية الآرامية. ولعب موقع تدمر دوراً هاماً في الحركة التجارية بين الفرات وشط العرب من جهة وبين البحر المتوسط من جهة ثانية. وعلى الرغم من أن الرومان احتلوا بلاد الشام عام 64 ق.م فإن تدمر بقيت مستقلة حتى أواخر القرن الأول الميلادي حينما تمكنت حامية رومانية من دخولها وكانت قد تعرضت لعملية نهب وسطو رومانية عام 41 ق.م على يد بعض جنود أنطونيو إلا أن سكان تدمر طردوا هؤلاء الدخلاء في حينها. ومنذ مطلع القرن الثاني للميلاد غدت تدمر مدينة التجارة العالمية وخاصة طريق الحرير وذلك بعد سقوط البتراء في يد الرومان وتحول الطريق التجاري العالمي إلى تدمر: تجارة الحرير والتوابل والعطور والعاج والزجاج والتماثيل والأقمشة. وفي عام 228م قامت في فارس السلالة الساسانية التي بدأت التوسع لإعادة مجد الامبراطورية الفارسية وكان طبيعياً أن تمتد أنظار هذه الأسرة إلى المراكز التجارية القريبة فاحتلت شط العرب وموانىء الخليج وحرمت تدمر منها. وهكذا أصبحت تدمر بين فكي كماشة طرفاها الفرس الساسانيون شرقاً والرومان الأوروبيون غرباً. واستطاعت أسرة عربية عريقة أن تتولى حكم تدمر وأن تلعب دوراً ذكياً في التوازن بين القوتين العالميتين وبرز من هذه الأسرة الملك أذينة الذي وسع مملكته ولكنه أخطأ الحسابات الاستراتيجية بتعاونه مع الرومان ضد الفرس. والرومان لم يكونوا ممن يحفظ العهد فهم أبناء حضارة متغطرسة تنزع إلى الهيمنة وترفض الآخر وتقمع من يخالفها ولا ترى غير مصالحها الذاتية. وبعد مقتل أذينة وابنه هرود في حمص تولت الحكم زوجته زينب المعروفة باسم زنوبيا وصية على ابنها وهب اللات, ووسعت زينب مملكتها فطردت الرومان من آسيا الصغرى, ووصلت جيوشها العربية حتى البوسفور وطردت الرومان من مصر ودخلت الاسكندرية في موكب ظافر وذلك عام 271م. كانت روما قد أصبحت تحت حكم الامبراطور (أورليان) وهو ينحدر من أسرة عديمة الثقافة وكان يمتاز بالبطش والطيش حتى لقبه رجاله بعبارة (يد على سيف) بمعنى أن ضربته كانت قبل كلمته, فهو بذلك يشبه الكاوبوي الذي يطلق النار لأتفه الأسباب. سار أورليان بجيوشه, ويبدو أن زينب ملكة تدمر لم تكن قد أتمت استعدادها الحربي واستطاع أورليان أن ينتزع مصر من يد وهب اللات بن زينب ثم أن ينتزع آسيا الصغرى ويهزم جيش تدمر في أنطاكية ثم في حمص. انكفأت زينب الى تدمر وأغلقت عليها أسوارها ووصلت جيوش الغزاة الأوروبيين الرومان فأحاطت بتدمر وأرسل الامبراطور أورليان الى زينب يطلب منها الاستسلام والخروج من بلدها وتسليم مقاليد الحكم لرجال رومان يختارهم هو. كان لدى زينب حكيم تدمري هو لونجين وكان مستشارها ووزيرها الأول وقد حاور لونجين الامبراطور الروماني وحاول أن يفهمه أن تدمر بلد مستقل وأن سكانها لم يتعدوا على روما وأنهم لا يشكلون خطرا على أحد ولا يمتلكون أسلحة مدمرة تستطيع الوصول الى روما. ولكن اورليان أفهم لونجين بوضوح أن الذي يهمه هو موقع تدمر التجاري وثروتها الكبيرة ولا يهمه من يموت ومن يبقى من سكانها وإنه يريد العالم كله بمن فيه وبما فيه يريد السيطرة الرومانية الكاملة على مقاليد الأمور لدى سائر الشعوب. وحينما أعجزه الحوار مع لونجين الفيلسوف أمر جنوده بقتله والخلاص منه وقد قال له أحد ضباطه إن لونجين رجل علم وفلسفة فلماذا تقتله? فأجاب أورليان إنني أقتله لأنه رجل علم وفلسفة فأنا لا أريد لتدمر أن تتعلم ولا أن تتقدم أريدها مدمرة جاهلة. حاولت زينب التسلل ليلا للوصول الى الفرات وطلب النجدة من الفرس الساسانيين ولكن خائنا من تدمر دل الرومان عليها فأسروها وأحضروها الى الامبراطور ومرة ثانية طلب منها توقيع الاستسلام فرفضت بكل اباء. دخلت جيوش اورليان تدمر فدمرتها وسوتها بالأرض وأباحها الامبراطور لجنوده سلبا ونهبا واغتصابا وهو يرى ذلك ويقهقه مسرورا دمر كل شيء فيها أسوارها, معابدها, أسواقها, منازلها وقتل السكان جميعا وكأنه يكرر ما فعله أسلافه بمدينة قرطاجة عام 146 ق.م وما فعلوه بانطاكية عام 64 ق.م. أما زينب فتختلف الروايات حول مصيرها فمن قائل إنها أضربت عن الطعام حتى الموت ومن قائل إن اورليان وضعها في قفص وأدخلها سجينة الى روما ليتفرج عليها الجمهور وكأنها دمية أو كائن غريب. بعد ثلاثة أعوام في عام 275 قتل اورليان وبعدة عدة عقود انهارت روما من الداخل وتفككت وتحطمت غطرستها اللاانسانية. المشهد الثاني: تموز 2006 الفرق الزمني بين المشهدين 1734 سنة والعقل الرافض للآخر لم يتغير وهذه المرة كانت طائرات اولمرت الصهيونية وبوارجه وصواريخه مدعومة من سادته أجداد اورليان وراء المحيط وكانت هذه الأسلحة الفتاكة تقصف بعلبك مدينة التاريخ والحضارة والتي يحمل اسمها عراقة التاريخ وعمق الزمان وأصالة الحضارة. وهؤلاء السادة القابعون وراء المحيط هم الذين قصفوا ودمروا قبل سنوات قليلة معالم التاريخ الانساني في بابل ونينوى ونهبوا المتاحف والمكتبات في بغداد والموصل وهم الذين يزرعون الدمار حيثما حلوا اسوة بأسلافهم الذين لم يكونوا يرون إلا أنفسهم ولم يعترفوا يوما بالآخر ولم يقيموا أي حوار حضاري مع أحد. ومن غرائب الأمور أن بعض الكتابات الأوروبية وبعض الأعمال الفنية التي تنتمي الى الفانتازيا التاريخية تحاول تصوير غزو اورليان لمدينة تدمر وكأنه مسعى حضاري لتطوير المدينة وتزعم تلك الكتابات أن قصة حب حدثت بين اورليان وزنوبيا وهذا العبث بالتاريخ يعتبر اهانة شديدة لتراثنا العربي ولملكة نعتز بتاريخها أيما اعتزاز وهي زنوبيا العربية. وقد لا نستغرب أن يطلع علينا غدا كاتب أو فنان من الكيان الصهيوني أو من أعوانه ليقول: إن تدمير شارون للمدن والمخيمات الفلسطينية كان عملا حضاريا وإن شارون كان واقعا في حب فتاة فلسطينية ولأجل عينيها قام بهذا التدمير. أو أن اولمرت قام بتدمير لبنان حبا بصوت فيروز. رفقا بهذا التاريخ ايها السادة وكفانا اهانات وتمزيقا وكفانا هرولة وراء قوى معتدية يحسبها بعضنا صديقة وهي تنظر الينا باستخفاف واستهانة. اورليان-شارون-اولمرت..صور تتكرر لمشهد واحد عبر التاريخ. |
|