|
آراء
ومن هنا شرعت تغير خططها السياسية الاستراتيجية فتحولت عن لعبة سياسة الاحتواء الى سياسة السيطرة المباشرة بالقوة العسكرية والتقنية التي تمتلكها هي وحلفاؤها. ويبدو لي أن الخرائط التي أعدت للمنطقة لم تكتف بغزو أفغانستان ثم العراق والسيطرة عليهما باسم مكافحة الارهاب وإشاعة الحرية والديمقراطية وإنما غدت تعمل بقوة على تجزئة المجزأ للكيانات العربية التي ولدت وفق معاهدة سايكس بيكو, ونفذها الانتداب الانكليزي والفرنسي باقتدار ملموس على الأرض وتأصلت في الأدبيات الصهيونية. وحين صم بوش الابن وإدارته أذنيهما عن سماع صوت الحق والعدل الذي صدر في بقاع شتى بما فيها بعض عواصم العالم المتحضر, فإن هذه الإدارة دفعت بكل ثقلها لغزو العراق وممارسة القتل والابادة الجماعية, وزرعت الرعب في أنحائه فضلاً عن السجون الكثيرة التي زرعتها في جنباته وفي دول أخرى, لعل أبرزها سجن أبو غريب وسجن غوانتانامو. ثم راحت تنفذ سياسة الفتنة الداخلية في إطار انتخابات معدة بعناية لجلب حكومات توافق عليها, وليست حكومة المالكي إلا المثال الأخير على ذلك. ثم راحت تستفيد من التكوين العرقي والطائفي والمذهبي لتخلق الأوضاع المناسبة لاستمرار احتلال العراق ونهب خيراته.. ولا ننسى في هذا المقام أن نشير الى الدستور العراقي الذي ولد في رحم الاحتلال, وأسس لشرعية المذاهب والأعراق وطفق يمزق البلد الواحد الى أقاليم عرقية ومذهبية بحجة القبول بالأمر الواقع والتصويت الذي جرى على الدستور. ولهذا ولد كيان كردي شبه مستقل عن جسد العراق وانتخب برلمانه الخاص به وحكومته المستقلة بقيادة مسعود البرزاني. وقد عملت حكومة البرزاني على تسيير شؤونها بمعزل عما يجري في العراق وشجعتها الادارة الأمريكية بقيادة بريمر ثم بقيادة زلماي زادة-وهذا ما دعاها الى إنزال العلم العراقي ورفع العلم الكردي, وإعلان مدينة كركوك عاصمة للشمال العراقي. وينبغي ألا يغيب عن بالنا بأن ما يجري الان في إطار الفيدرالية العراقية المؤسسة دستورياً يختلف كل الاختلاف عما جرى في عهد نظام صدام حسين في مسألة الحكم الذاتي... وإذا كنا لا نعير بالاً لتصريح جلال الطالباني بأنه لن يرضى أن يكون رئيساً لإقليم وهو رئيس العراق الآن, لأن هذا التصريح وأمثاله لا يتوافق مع الأحداث التي تجري على الأرض, فإننا ننظر الى تصريحات عبد العزيز الحكيم بعين الريبة والخطر. فقد دعا صراحة الى تعميم الفيدرالية على العراق كله وتقسيمه الى ثلاثة أقاليم في الجنوب والوسط والشمال... وهو لا يني يردد قوله بإيجاد حكم ذاتي فيدرالي للجنوب ذي الأغلبية الشيعية لإحداث نوع من التنمية والاستقرار بمثل ما حدث في الشمال, كما يزعم وهي دعوة تتطابق مع ما ترمي إليه السياسة الأمريكية والصهيونية في هذا المجال. ولعل من أعظم الأخطار في هذا المقام أن الحكومة الايرانية لم ترفض مبدأ الفيدرالية في العراق, إذ نرى شيئاً من المغازلة في تشجيعه مع بعض الأوساط العراقية, وكأنها لا تستشعر الخطر الماحق في تبنيه, ومن ثم تأثيره في البنية الداخلية لتكوين الدولة الايرانية التي تجتمع فيها قوميات عدة ومذاهب شتى, ما يعني أن المشكلة ستنتقل إليها شاءت أم أبت, وسوف تجر عليها ويلات كبرى, بمثل ما تجر الويلات الى البلاد المجاورة لها أمثال تركيا والسعودية وسورية فضلاً عن بلاد عربية أخرى مثل السودان ولبنان. فتركيا التي تشعر بخوف حقيقي من انفصال الجنوب الشرقي ذي الأغلبية الكردية إذ يزيد عدد الأكراد على 14 مليوناً سوف تجد نفسها -أيضاً- مهددة بوحدتها ووحدة أراضيها.. وإذا كانت المشكلة الكردية في تركيا وإيران وسورية مؤجلة اليوم, لوجود أولويات لدى الادارة الأمريكية المحافظة في العراق وفلسطين ولبنان, فإن الانفصال لتكوين دولة كردية حينما تحين الفرصة المؤاتية لتمزيق هذه الدول التي تدين بالاسلام, على اعتبار أن الاسلام غدا خطراً على النظام العالمي المتحضر.. ونرى أن انتماء تركيا للإسلام كان وراء عدم قبولها في دول السوق الأوروبية المشتركة.. أما أمر السعودية فأوضاعها أيسر منالاً من أوضاع إيران وتركيا لأن المنطقة الشرقية ذات أغلبية شيعية, وأوضاع أهلها المعيشية يماثل البؤس الذي يعانيه الأكراد في تركيا -كما تزعم الادارة الأمريكية المحافظة- فإذا كانت المشكلة الشيعية في السعودية مؤجلة هي الأخرى فلا بد أن تأتي اللحظة المناسبة للانقضاض على السعودية... وفي ضوء ذلك كله فإن الادارة الأمريكية المحافظة تخلق الأوضاع المناسبة لسياستها ومصالحها من أجل الهيمنة على المنطقة ومن ثم تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد من خلال بوابة الفيدارلية التي تعمل على تطبيقها في العراق, وقد تقدمت بها خطوات كبرى حين دفعت بالدولة اللقيطة الى شن عدوان همجي منظم على لبنان/الشعب والمقاومة والأرض والتراث في 12/7/2006م, وكانت رغبة بوش الجامحة أن يحقق الكيان الصهيوني انتصاراً مؤزراً وسريعاً للنفاذ منه الى تقسيم لبنان والانتقال الى سورية لتنفيذ مخطط آخر أعد لها. ولكن الرجال الأحرار وشرفاء لبنان أسقطوا المخطط الأمريكي-الصهيوني في حين ما زال مخطط الفيدرالية مستمراً في العراق. وفي هذا الاطار ينبغي ألا يغيب عن بالنا ما جرى في السودان من فيدرالية بين حكومة الجنوب وبين الحكومة السودانية المركزية, ما جعل الادارة الأمريكية ترضى بما انتهت إليه هذه الفيدرالية, علماً أن بعض قادة الجنوب لا يزال يرفع تهديده بالانفصال عن الحكومة المركزية إن لم يحصل على ما يريد.. وها هو ذا الأمر يتجدد في (دارفور), وإن كانت طريقة الاخراج مختلفة, إذ ينفذ مخطط تجزئة السودان -هذه المرة- في إطار القرارالدولي 1706 الصادر عن مجلس الأمن, وهو يعمل على فرض قوات دولية لإتمام الفيدرالية بحجة حماية الشعب في دارفور... وفي هذا المقام لا ننسى ما يجري في فلسطين من شبه فيدرالية بين غزة والضفة على اعتبار عدم اتصال الأرض, أو ما كان مخططاً له من قبل الصهيونية لإلحاق الضفة بالأردن في إطار فيدرالية مناسبة لهما, وقد تتراجع الفيدرالية في مكان ما -مؤقتاً- بيد أنها تنجح في مكان آخر بفعل أبناء جلدتنا الذين قصرت رؤيتهم وغشيت عيونهم عن إبصار الحقيقة الناصعة التي تسعى الادارة الأمريكية المحافظة الى تنفيذها.. ومهما يكن الأمر فإن الأحرار والشرفاء من الساسة والمثقفين وأبناء الشعب سوف يظلون بالمرصاد لكل ما تخططه الادارة الأمريكية لسرقة خيرات هذه المنطقة والسيطرة عليها, خدمة لمصالحها ومصالح الدولة اللقيطة التي تخطط لتحقيق دويلات جديدة في الوطن العربي إذ قال الباحث الصهيوني (دافيد كاما) في كتابه (الصراع لماذا والى أين?): العرب غرباء عن هذه المنطقة, دخلاء عليها, جاؤوا من شبه الجزيرة العربية فاضطهدوا شعوب المنطقة, وعلى إسرائيل أن تقيم دولة للموارنة في لبنان, وللدروز في سورية وللأكراد في العراق, وللأقباط في مصر, وللأفارقة في السودان, وعليها أن تقود هذه الدويلات.. من هنا نثمن يقظة الشعب العربي ومثقفيه في التصدي لكل ما يحاك للوطن العربي من تجزئة المجزأ وفق سياسة الفيدرالية التي أعدت لها الادارة الأمريكية المحافظة الدراسات اللازمة, والخطط المطلوبة بالتعاون مع الكيان الصهيوني, ولكن هل ستنجح?!. * رئيس اتحاد الكتاب العرب |
|