|
معاً على الطريق تفيق الأيام البعيدة التي كانت في قبضة اليد.. ويفيق الشوق فترتسم على الصقيع وجوه تشبه الوجوه التي نحبها أو التي عبث فيها الفراق فأضاف لها أجنحة لتطير عبر الأمكنة والأزمنة.. كيف نمسك بالوجوه التي سافرت؟.. كيف نلتقط ابتساماتها وإشاراتها؟.. هل يعود الزمن إلى الوراء؟ أم يمشي دائماً إلى الأمام داهساً بين أرجله قلوبنا وأحلامنا وقمح الذكريات؟. الثلج يندف قطناً أبيض.. يشبه القطن الذي كانت أمي وخالاتي يندفنه في ليالي الشتاء ليخلصنّه من البذور والأوراق اليابسة ثم يصنعن منه وسائد وأغطية محشوة بالحلم والأمل والحكايات الشتوية القاسية.. وقد ينسجن منه كنزات باردة مثل - الوكف - الحارق في عيوننا. الثلج يتكدّس على الأسطحة كما نكدّس الألم.. لكن بياضه يغشنا كما يغش عاشق مزيف صبية عندما يبيع الكلام الأبيض وفي عينيه نظرة ذئب. نركض في الثلج فيركض البرد في أجسادنا.. تزرقُّ الأصابع وترتعش الأفئدة.. نبحث عن تنّور الخبز لعلّ بعض الجمر قد بقيَ مختبئاً تحت الرماد.. يا له من رماد دافئ يعفر وجوهنا (بالصفوة) فتغضب أمهاتنا الغضب الجميل. ما أطول أيام البرد في قريتي.. الحطب مبلول, والجدران ملفّعة بالشهيق القديم.. تنقطع الدروب.. ونقطة الدلف تصير بحراً.. والثلج تاريخاً.. كتب مدرسية ملقاة على اللباد المزخرف, المشغول يدوياً من صوف الخراف.. أبي ينشر الخشب من شجرة زيتون قديمة.. تشتعل قناديل الكاز فتضيء العالم. لم نكن نحتاج إلى الكهرباء.. وما كنّا نحسّ بنعمتها لذلك لم تكن نقمة المصابيح موجودة في قواميس القرى المتشبثة بالمتنبي وأبي نواس والسيرة النبوية والقرآن الكريم وكتب الحساب والقواميس الجامدة.. كنّا ننام باكراً, كي نستيقظ باكراً.. حبّات المطر معلّقة على الأغصان.. الجليد يزحلق طفولتنا.. النهر الغاضب يصرخ في وجوهنا.. لكننا نصرّ على اجتيازه فالمدرسة بعيدة والأمل قريب.. وليس للقرويين سوى الورق الأبيض كهذا الثلج يكتبون عليها أمنياتهم, علّهم يخرجون بعد ذلك إلى الدوائر الواسعة حيث الطرقات المعبّدة والنوافذ المضيئة.. هكذا يصل الحلم إلى النهاية.. عندما يخلع المرء قريته.. ويخلع من ذاكرته الحطب المبلول ويترك رفاق الطفولة في حقول القمح أو الزيتون.. بينما يعود هو غريباً لا يطيق سماع عواء الذئاب الجائعة.. ولا خوار بقرة.. ويبدأ بنسيان الأسماء والوجوه.. هو الثلج.. يفعل فعله في الذاكرة إذ يمحو كل المعالم القديمة والجديدة، ويبدأ عزفاً منفرداً لا يشبه العزف القديم، وإذ يمرّ الغائب، ويسمع نايات الثلج.. يحنُّ إلى الأبواب القديمة فيركع على العتبات ويدندن للبياض النقي بعد طول سواد.. فهل تعود الأبواب إلى الانتظار.. وتعود المحطات إلى اللهفة؟. .......................................... الثلج يعزف سمفونيته الآن في قريتي.. يجمّد الأصابع. دخان مدفأة الحطب يتصاعد لولبياً على الغيوم الملبدة.. لكن لا يوجد تنّور نتدفّأ بجمره.. ونتعفّر بصفوته.. لن تصرخ أمّي ولن تخرج عن صمتها الأبدي. البرد شديد.. والكهرباء مقطوعة.. شجرة الزيتون التي كان يقصُّها أبي لم تعد موجودة.. هناك أشجار حمضيات سلخها الثلج وعرّاها من جلدها وثمارها.. صار من الصعب أن نعيش بلا كهرباء.. عادات جديدة غيّرت وجه القرى وغيّرت وجه البيوت.. أول الأسئلة (عندك كهرباء؟.. عندك نت ؟ ) ثم يبدأ السؤال عن الحال.. لا نقدر أن ننام باكراً لنصحوا باكراً.. لقد تغيّرنا.. وتغيّرت عاداتنا.. غاب الآباء.. وانزوت كتب التراث في مكان قصي.. تَصدّر التلفاز الصالون.. صَمَتَ الجميع ليتكلّم هذا الصندوق العجيب.. هذه هي الحضارة. أن تملك بيتاً وتلفازاً، وتحب البيتزا.. ليس مهماً أن تعرف كيف تصنع سيارة.. ولا كيف تصنع معمل نسيج. المهم أن لا يمرّ عليك الثلج ويعزف أغانيه الباردة في بيتك.. لكن.. الثلج عاد.. الثلج يعزف.. الأطفال يرقصون ثم يموتون.. آباؤنا يبكون علينا.. نهزأ منهم.. لنا حضارتنا ولهم حضارتهم.. لكن الثلج يندف.. والكهرباء مقطوعة والمازوت اختفى من البلد.. والغاز تبخّر.. ونحن كسرنا منشار الخشب وحوّلناه إلى منشار لقطع الرؤوس .. الثلج يندف.. الدم ينزف.. البشر يتحوّلون إلى ذئاب.. الذئاب تعوّي من الجوع.. تختلط الأسماء والصفات.. وراء كل جدار مهدّم رأس وذئب وثلج يعزف.. وراء كل قطرة مطر بحر حبر يزوّر تاريخاً ويغزل آخر على هواه. ضاقت عليَّ الإشارات.. اتجهت إلى قبر أمّي علّني ألتقط الشارة الصحيحة.. وجدت النهر قد فاض بعد جفاف طويل.. ورأيت أمّي واقفة قربه والثلج يكسو جسدها. اقتربت منها فابتعدت.. سمعت نحيباً هامساً.. لا أعرف إن كان هذا صوتها أو صوت الثلج الذي بدأت ناياته تعزف من أجل البياض النقي . النايات تعزف والثلج يبكي. ............................................ |
|