تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الإرهاب يرتدّ على باريس بعد عرعر.. فهل يستيقظ صانعوه؟

الصفحة الاولى
الإثنين 12-1-2015
د. أمين حطيط

لم تكن العملية الإرهابية التي نُفذت في قلب باريس في الأسبوع الماضي حدثاً عادياً في فرنسا وأوروبا بشكل عام وقد يصح وصفها بالإعصار الأمني العنيف الذي ضرب المجتمع الغربي،

رغم أنها في حجمها المادي ونتائجها الميدانية المباشرة لا تصل إلى سقف أي من العمليات الإرهابية الإجرامية التي تنفذ في سورية والعراق على يد الذين يتفنن الغرب في إيجاد التسميات المختلفة لهم من «معارضة معتدلة» و«جهاديين» و«ثوار»... الخ. ومع هذا يبقى من الخطأ الكبير أن يتم التعاطي معها فقط انطلاقاً من حجم الخسائر التي أحدثتها والإرهابيين الظاهرين الذين نفذوها.‏

كما أنه يكون من الخطأ أيضاً أن يتم التعاطي مع العملية منعزلة عما يحصل في العالم على صعيد الإرهاب وما يتصل به من دعم واحتضان من قبل هذا الطرف أو ذاك، أو من حرب عليه في هذه المنطقة أو تلك. والخطأ الذي يفوق كل ذلك يكون بالتصوّر أن الإرهاب والجماعات الإرهابية هي مجرّد أدوات طيّعة بالغة الانضباط تنفذ الأوامر الحرفية لمن صنعها وتلتزم بتعليماته في الزمان والمكان حسب إرادته ومشيئته.‏

فمن حيث المبادئ التي باتت مسلّمات تقوم عليها عمليات إرساء الأمن والاستقرار، هناك قاعدة الأمن الإقليمي الشامل المنسق، المنفتح ليشكل جزءاً من الأمن الدولي التكاملي، وهي قاعدة حلّت مكان نظرية «الأمن الوطني الحصري» التي تراجعت أمام المفهوم المتقدم الذكر تراجعاً سببه التطور السريع والنوعي في منظومات التواصل والاتصالات والانتقال. وبالتالي بات على المجتمع أو الدولة التي تريد أن ترسي أمنها أن تعتني بما يجري في الإقليم الذي هي فيه ثم في المحيط القريب واللصيق وتبحث عما يوفرانه لها في سياق إرساء منظومتها الأمنية وتقوم بالتنسيق والتكامل معه لإنشاء البيئة الآمنة. فالأمن بيئة قبل أن يكون جهاز شرطة، ومن جهة أخرى ينبغي أن يعرف من يصنّع الإرهاب ويدعمه أن أخطر ما في منظومة الإرهاب هو الثقافة الإرهابية التي تسقط مفهوم الدول والأنظمة والقوانين وتتفلت من أي قيد يضبطها لتتصرف كما ترى هي مناسباً لها، حتى ولو كان تصرفها ضد من صنعها.‏

لكن الغرب ومنه فرنسا، ورغم انه كان سباقاً في إرساء نظرية الأمن الإقليمي المنسق، المؤكد على مفهوم الأمن الدولي الشامل، ورغم إدراكه لطبيعة الإرهاب الحقيقي، رغم ذلك فإنه عمل خلافاً للقواعد وظن أن بإمكانه الفصل في التعاطي مع الإرهاب تمييزاً بين إرهاب مسموح به يُصنّع ويُصدّر أو يُحتضن ويُدعم للنيل من الخصوم والأعداء، وإرهاب ممنوع يلاحق ويجتث من أي مكان يكون للغرب مصلحة في المحافظة على أمنه واستقراره. ظنٌّ جاء استكمالاً لمنطق الثنائية أو المعايير المزدوجة التي يعتمدها الغرب في كل شيء، ازدواجية تجعل الحق حيث مصالح الغرب حتى ولو كان الأمر جريمة، وتجعل من الأمر المناقض لمصلحة الغرب جريمة حتى ولو كان بطبيعته حقاً مشروعاً لا يجادل فيه عاقل.‏

وتطبيقاً لما تقدّم نجد أن الغرب رفض منذ أربعة عقود دعوة الرئيس حافظ الأسد لتحديد تعريف للإرهاب، وأصر بخاصة أميركا على توصيف المقاومة المشروعة بأنها إرهاب، في حين يصر اليوم على دعم الجماعات الإرهابية التي تعمل في سورية والعراق ضد الشعب وأجهزة الدولة الشرعية في البلدين، ثم يتظاهر استعراضياً بمحاربة بعض الفصائل الإرهابية، في الوقت الذي يقوم فيه بدعم تلك الفصائل وسواها خفية وعلانية.‏

لقد اعتمد الغرب الإرهاب أداة من أجل تحقيق مشروعه الاستعماري الجديد في المنطقة وهو المشروع الذي فشل في فرضه عبر أربع حروب متتالية نفذّها في أقل من عقدين، وتصوّرت أميركا ومعها أوروبا وإسرائيل، أن تدمير المنطقة واجتثاث تاريخها وتراثها وتهجير سكانها بعد الفرز على أساس ديني وعرقي، سيمكنها من إعادة صياغة المنطقة وفقاً لما تريد، للانتقال من صورة «سايكس بيكو» التي أنتجت إسرائيل، إلى صورة صهيوأميركية تجعل من أميركا قائدة للعالم ومن «إسرائيل» مديرا إقليميا محليا للمنطقة.‏

لكن الميدان كذّب الحسابات الغربية وأظهر خطأ الرهان على الإرهاب، الذي تبين أن بإمكانه أن يقتل ويدمر ولكنه عاجز عن أن يسيطر لتسهيل مهمة أميركا. عجز وفشل فرضه صمود شعوب المنطقة وبطولاتها وتقبلها لأعلى درجات التضحية في الدفاع عن نفسها وجوداً وحقوقاً مجتمعات ودول.‏

لقد كان صمود سورية الأسطوري، وبعده انتفاض العراق الحازم ضد الإرهاب حدثاً مفاجئاً للغرب في خططه، ومجهضاً للإرهاب في سعيه وفقاً للإرادة الغربية، ورغم كل ما وضع بتصرف الإرهاب من طاقات ووسائل، فقد حافظت سورية على الإمساك بزمم الأمور، واستعاد العراق زمام المبادرة في وجه الإرهاب، إلى أن وصلت الدولتان بدعم من مكونات محور المقاومة الأخرى ومساهمتهم في العملية الدفاعية المفروضة، وصلتا إلى حدّ اليقين بالانتصار، والثقة بأن إعلان الانتصار والعودة إلى الحياة الطبيعية من الأمن والاستقرار باتت مسألة وقت فقط، بعد أن فَقَدَ المخطط الأميركي أي أمل في فرض إرادته كما شاء منذ البدء.‏

ومع هذه النتيجة كان لابد من طرح سؤال حول مصير الإرهابيين والإرهاب الذي تفشّى في المنطقة، والذي تشكل بدعم وتسهيلات مذهلة من 133 دولة تجمعت يوماً تحت عنوان كاذب «أصدقاء الشعب السوري»، والأصح أن يسمى أصدقاء الإرهاب ضد الشعب السوري.‏

يطرح السؤال حول مصير الإرهابيين بعد أن بات واضحاً أن لا مستقبل لهم في سورية التي التزمت محاربتهم حتى تطهير أرضها منهم، و بعد أن تعهد رئيس الوزراء العراقي باجتثاثهم من العراق في مهلة لا تتعدى السنة، سؤال يطرح لأنه من غير المعقول القول بأن الإرهابيين جميعاً سيقتلون في المواجهة فالمنطق العملي يفرض القول بفرار جزء منهم عائدين إلى المصدر الذي جاؤوا منه، وتشكّل فرنسا وأوروبا جزءاً من هذه المصادر بعد أن أعلنت هي أن الإرهابيين المنطلقين منها إلى سورية والعراق يلامسون الألف، كما أكد مسؤولون أوروبيون آخرون أن العدد الإجمالي من الإرهابيين المنطلقين من أوروبا يلامس الأربعة آلاف، فضلاً عن وجود خلايا نائمة و قيد التحضير تتعدّى العشرة آلاف.‏

إذن من المؤكد أن جزءاً من هؤلاء سيعودون إلى المناطق التي جاؤوا منها، وسيحركون جزءاً من الخلايا النائمة، وسيستغلون أي سلوك أو تصرف منحرف ويتخذونه ذريعة لفعل إرهابي ما، ويستأنفون نشاطهم الإرهابي الذي احترفوه في الميدان المشرقي.‏

وكما توجه الإرهابيون إلى السعودية ليضربوا في عرعر قبل أسبوعين فقد عادوا إلى فرنسا ليضربوا في باريس في الأسبوع الفائت وحصل ما حذّر منه يوماً الرئيس الأسد منذ أن ضرب الإرهاب سورية برعاية غربية وخليجية. وبات الآن على الجميع خاصة الغرب أن يواجه المعضلة بمنطق ووضوح رؤية وأن يتخلّى ولو لمرة واحدة عن الخداع والازدواجية في المعايير والكيدية في التصرّف حيال الشعوب التي تتمسك بسيادتها وقرارها المستقل.‏

لا يستطيع الغرب أن يحارب الإرهاب ويتباكى على ما يفعله فيه، وفي الوقت ذاته يدعم الإرهاب ويشجع أعماله في العراق وسورية، ويخلق الذرائع الاستفزازية للأعمال الإرهابية متذرّعاً بحرية التعبير، فكما يُطبق قانون معاداة السامية لمنع استفزاز إسرائيل واليهود عليه أن يفعل الشيء ذاته بالنسبة للأديان والأمم الأخرى فالحرب على الإرهاب يجب أن تكون واحدة شاملة متكاملة عملاً بمبدأ الأمن الدولي الشامل المتكامل فالتجزئة والتصنيف بين إرهاب مسموح به وإرهاب ممنوع هو نفاق يرتد على أصحابه ويلاً وخسارة. وبالتالي على الغرب أن يتوقف عن دعم الإرهاب ويسارع إلى التنسيق بصدق وجدية مع من يحاربه فعلياً كما تفعل سورية والعراق اليوم.‏

وأخيراً ومن غير تورية أو حجب للحقائق يجب أن ندرك بأن المستفيد الرئيسي من الإرهاب عامة ومن الجرائم التي يرتكبها الإرهابيون في المنطقة هنا وفي الغرب بخاصة هي إسرائيل التي قامت في الأصل على قاعدة الإرهاب الذي ارتكبته عصاباتها واعتمدت النفس العنصري في سياستها، والتي ستكون سعيدة جدا بالنزعة العنصرية التي تتصاعد ضد العرب والمسلمين في أوروبا، كما هي سعيدة لما ينزله الإرهاب في سورية والعراق من خسائر وبخلاف ذلك فإن المتضرر الأول من الإرهاب هو الإسلام كدين، والمسلمون والعرب كأمة وأفراد، دون أن نسقط الضرر الكبير الذي يلحق بأوروبا دولاً وشعوباً ومجتمعات إذا تفشّى الإرهاب لديهم، وهنا يُطرح السؤال: هل تجتمع كلمة المتضررين جميعاً لمحاربة الإرهاب بشكل جدّي، دون أن تكون حرباً استعراضية خادعة كما هو حال ما تقوم به أميركا مع تحالفها الدولي ضد داعش؟‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية