|
ثقافة هل يبتغي الكاتب أكثر من هكذا تأثير وقوة لكلماته.. هل يعي فاعلية وسطوة الكلمة التي ينطقها عبر الأدب.. ؟
في كانون الأول من عام 1934، صدر كتاب «كيف سقينا الفولاذ» للكاتب الأوكراني نيقولاي أوستروفسكي.. وُضعت أول نسخة على صدره.. حينها كان جسمه كله مشلولاً ما عدا يديه.. فتلمّس بأصابعه صورة الغلاف التي كانت من النوع النافر.. عندها تذكّر بيتاً من قصيدة فلاديمير ماياكوفسكي: «أريد أن يكون قلمي مساوياً للحربة».. ثم أردف: «وكتابي أيضاً قد أصبح سلاحاً». وبالفعل أصبح كتاب نيقولاي وكما لو أنه أمضى من كل سلاح.. تحوّل كتاباً بطعم الرصاص.. خلال الحرب الوطنية ضد الفاشيين أعوام (1941- 1945).. بدليل وجود نسخ صغيرة تحمل آثار شظايا القنابل.. معروضة في متحف أوستروفسكي.. وفيه طبعة نادرة للرواية صدرت عام 1942، في لينينغراد أثناء الحصار، التي تمّ توزيع كل نسخها على المحاربين المدافعين عن المدينة المحاصرة. تُرجمت الرواية إلى أكثر من (56) لغة وصدرت في (60) بلداً.. كما حوّلت إلى السينما أكثر من مرة.. مؤخراً أعادت دار المدى ترجمتها إلى اللغة العربية. بدفقات ذاكرة خصبة استعاد سيرته.. خطّها.. ليس تخليداً لذاته أو لنضاله.. بمقدار ما أراد خدمة مبدأ لطالما آمن به وعاش طوال حياته في سبيل تطبيقه. لم يعش نيقولاي حياته لأجل وضع غايته موضع التنفيذ والتطبيق العملي وفقط.. لم يعشها بل دفعها ثمناً لفكرته: «النضال في سبيل تحرير الإنسانية». وعلى جانبي النضال.. من شتى جوانبه يبدو أوستروفسكي أكثر من مثال يُحتذى لمن مارس النضال قولاً وفعلاً وحتى أدباً. يسير جنباً إلى جنب مع بطله (بافل كورتشاغين).. المعادل الموضوعي له في كتابه «كيف سقينا الفولاذ».. وإن كنت تلمح بعضاً من صفات نضال بافل إلى جانب أصدقائه العمال في السكك الحديدية.. كيف صنعوا المعجزات وتمكّنوا من تسيير القطار.. وإن كنت ستراه بعد سنوات العمل والكفاح ممدداً على سريره يملي كلماته على فتاة تخط له كتابه.. تصفّ حروفه التي بالكاد أمسى قادراً على نطقها.. فإنك بالآن ذاته تتعرّف على نيقولاي النسخة الحيّة الواقعية من ذاك البطل الملحمي.. هل يجوز توصيفه بالملحمي.. ؟ أوليس كتاب «كيف سقينا الفولاذ» بمثابة ملحمة البطولة التي صاغها يوماً الشعب الروسي.. أ ولم يرد له نيقولاي أن يصبح الملحمة «الحية» لشعبه ولفكرته التي سقاها دماءه.. ؟ يرى البعض ومنهم الناقد سميرنوف المتخصص بدراسة الأدب الروسي أن بطل نيقولاي يضاهي أبطال الأدب الروسي الكلاسيكي.. وبعضهم رأى أن كتابه أكثر تعقيداً من بعض كتابات تولستوي ودوستويفسكي. أمّا عن الفولاذ.. فهل كان بأبسط إشاراته التي أرادها الكاتب إلا تعبيراً عن قوة إرادته.. صلابتها.. متانتها التي تكاد تضاهي أصلب المعادن. إرادة الفولاذ تلك تخطى بها كل الصعاب.. لتجسيد مبدئه الذي عاش لأجله: «تحرير الإنسانية».. أثناء الحرب عانى من إصابات خطيرة.. انتهت بشلله وفقدانه البصر.. لم تمنعه من الجلوس دون فعل أي شيء إذ كان أن ألّف كتابه مطبقاً مقولته التي جاءت على لسان بطله (بافل): «تعلّم أن تعيش حتى لو أصبحت حياتك لا تُطاق».. بالنسبة للكاتب لا تبدو مجرد مقولة فسيرة حياته تبرهن على أنه طبّقها بالحرف فأصبح مثالاً للشجاعة والصبر والصمود. عاش نيقولاي حياة قصيرة لكن غنية ما بين عامي (1904- 1936).. يروي أهم تفاصيلها في عمله «كيف سقينا الفولاذ».. يبدأ من طفولته ويحكي عن معاناته التي بدأت من طرده من المدرسة فجعلته والدته يعمل في مشرب في محطة السكك الحديدية. في ذلك المكان ستحمل ذاكرته بعضاً من صور الاضطهاد وظلم الإنسان للإنسان.. تحمّل كل أنواع القسوة وسوء المعاملة. في ذلك المكان.. في المشرب عاش الطفل «بافل» الحياة إلى قاعها.. وعرف ما يعنيه مستنقعها. يسرد كيف تمت الإطاحة بالقيصر وما تلا ذلك من صراع طبقي مخيف اجتاح أوكرانيا.. امتلأت البلاد بأنواع من عصابات ارتكبت أفظع الجرائم وقف بوجهها الشباب المقاوم لتثبيت الاشتراكية. في الجزء الثاني يتطور الحدث ليشتمل على نضال المقاومين بمن فيهم عمال السكك الحديدية في مواجهة الألمان.. وكيف تطور بافل فكرياً لينضم أخيراً إلى صفوف الحزب الاشتراكي ويتابع عمله السياسي ويتدرج في صفوف الحزب. هكذا يزاوج الكاتب بينه وبين بطله.. لنستشف من خلال سيرة بافل أن نيقولاي لم يقف على الحياد حين اندلعت الحرب الأهلية التي تسبب بها أعداء ثورة أكتوبر ضد الدولة الشيوعية.. كان شاهداً على أفعال الجيش الأبيض من نهب وسلب وقتل. انضم إلى الجيش عام 1920، وبسبب الحرب تشوّه جسد أوستروفسكي الذي عانى من السل والتيفوئيد والشلل وفقدان البصر.. لم يحل مرضه من متابعته حياته التي واصلها من خلال الكتابة.. فخط كتابه اليتيم الذي غدا من أهم الكتب التي يفاخر بها الروس. |
|