|
ملحق ثقافي
ومع تمام تلك الدورة أصبح الجميع مهيئين للتعامل مع حقيقة جديدة تقول أن الرواية اتسعت في حدود وجودها خارج حدود التصنيفات والمدارس. ومهد هذا الاستعداد الجديد الطريق أمام رؤية أكثر شمولية للنص الروائي الذي أنجزته تجارب الروائيين منذ أواخر القرن الماضي إلى يومنا هذا. وتنطلق تلك الرؤية من أن الرواية المعاصرة قد أصبحت بالفعل نصاً يمتلك مشروعية وجودية ومصداقية مستقلة عن كل ما خارجه، خصوصاً عن النص التاريخي. وتأسست فكرة استقلالية النص الروائي عن النص التاريخي إنطلاقاً من الاتجاه الروائي الذي سيطر بشكل عام على المشهد العالمي والذي تميز بنزعة نحو إعادة اكتشاف الذاكرة الفردية وتوظيفها كأداة ليست قادرة على إعادة قراءة التاريخ فقط، بل قادرة ومطالبة بشكل ملح بكتابة تاريخ جديد يستعيد الانسان الذي همشه وقمعه النص التاريخي الرسمي. وفي هذا السياق احتلت الذاكرة الفردية فضاءات الرواية المعاصرة منذ العقدين الأخيرين في القرن الماضي بشكل جعل من الرواية توصف بأنها أوتوبوغرافيا مضمرة. وفي البداية قامت علاقة التجاذب هذه بين الرواية وبين التاريخ على إرث عنيف أنجزته التجارب السياسية الكبرى في أوربا والتي كرست نماذج شمولية مغلقة ليس في السياسة وحدها، بل في كل أنماط الحياة وفي الفن على وجه الخصوص. وأخذت حالة التجاذب تلك شكلاً تقليدياً في البداية يقوم على فكرة شائعة هي أن النص الإبداعي يكتب التاريخ من وجهة نظر إنسانية، بعكس النص التاريخي الذي تكتبه القوة والسلطة. وهكذا فإن الرواية ستكتب تاريخ الإنسان الصغير المهمش والمسحوق في النص التاريخي. كانت هذه المقاربة ملتبسة من حيث أنها ارتكزت على فكرة تقليدية وشائعة حتى في الأدب الروائي الذي كتب في القرن التاسع عشر. فالأدبب كان دائماً كتابة وتعبيراً عن وجود الإنسان في التاريخ. غير أن ذلك الالتباس سريعاً ما زال وظهرت مقاربة أكثر وضوحاً وتحديداً لعلاقة الرواية الجديدة بالتاريخ. انطلقت المقاربة الجديدة من فكرة أن الفرد ذاته يمتلك تاريخه ويستطيع كتابته لأنه يمتلك ذاكرة. وبمعنى آخر لم يعد الإنسان الفرد في الرواية الجديدة مجرد موضوع يفحصه النص الروائي ليثبت تلك الملامح الإنسانية المغيبة عن النص التاريخي، بل أصبح ذاتاً تعي تاريخها الخاص وتدرك خطورة هذا التاريخ وما يشكله من تهديد لاستقرار البنى والأنماط السائدة. أصبحت هنا الذاكرة هي الطرف الجديد في معادلة الصراع بين التاريخ والانسان. لقد عبر ميلان كونديرا عن هذه الحالة الروائية الجديدة في كتابه “الضحك والنسيان” بقوله “إن الصراع ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان”. وكان كونديرا هنا يوصف في حقيقة الأمر ملامح الرواية الجديدة كما ظهرت بداية في كتابات روائيي أوربا الشرقية أواخر القرن الماضي الذين وفرت لهم تجربة الصراع مع السرديات الكبرى للأنظمة الشمولية فرصة فريدة لإبداع كتابة السرديات الصغرى. وهنا كانت كتابات ميلان كونديرا، إيفان كليما، جوزيف سكفورسكي، شيسلو ميلوس، دانيلو كيش وجورج كونراد. في مراجعاته لروايات جورج كونراد مثلاً يرى الناقد ديفيد ماركوس أن ريادة كتاب أوربا الشرقية للإتجاه الروائي الجديد الذي احتفى بالذاكرة لم يكن صدفة. لقد تحولت الروايات الجديدة لدى هؤلاء الكتاب إلى فضاء لفعل الذاكرة الفردية، وتجلى هذا الفعل في بنى سردية كانت شغوفة بالتمايز عن بنية السرديات التاريخية. وهنا كان الولع الروائي بمخالفة البنية الخطية التسلسلية للزمن التي تشكل الآلية الحاكمة في كتابة التاريخ. تم تجاوز تلك الخطية إلى منطق آخر من الوعي والتعبير أتاح للذاكرة أن تعبر عن بنية داخلية انعكست في تقنيات السرد الروائي. ولذلك لم يكن التعبير الروائي الجديد مجرد إعادة توظيف لتقنيات السرد التاريخي الرسمي، بل كانت كتابة نقيضة ومقاومة بشكل جوهري من خلال إنتاج سرد مغاير للتاريخ بشكل نوعي. ولكن مايميز الرواية المعاصرة هو أن الحساسية الجديدة في كتابة الذاكرة لم تتحول إلى قالب أو أداة تصنيف، لذلك لم تنتج الحساسية الجديدة أنماطاً كما حدث في محطات سابقة من تاريخ الرواية، بل أنتجت تجارب متنوعة لا تقبل التصنيف في تيارات أو اتجاهات أسلوبية محددة. ولم تقترن الحساسية الجديدة بأي معدلات أسلوبية مكرسة، لذلك نرى أن الروائيين المعاصرين متحررين بشكل تام من هاجس الانتماء إلى المدارس والاتجاهات الأسلوبية. ويمكن القول ببساطة أن المشهد الروائي المعاصر هو كرنفال من الأشكال والتعبيرات واللغات التي تختلط مع بعضها دون أي ضابط أو معيار مسبق بشكل لم يسبق أن حدث في التجربة الروائية. لقد خلق هذا الواقع إمكانيات التجاور والتزامن والاختلاف فيما بين عناصر التجربة الروائية الكونية وأبعد آليات التشابه والتناسق عن المشهد. هل خلق ذلك كله حرية أكبر أمام الروائيين؟ ربما، ولكن من المؤكد أن تلك الكرنفالية في المشهد الروائي العالمي المعاصر سمة أصيلة لا تعبر فقط عن خصوصية اللحظة الثقافية، بل تعبر أيضاً عن سمات النص الروائي ذاته من حيث أنه أصبح شكلاً عصبياً على أدوات التنميط والتصنيف. إنه نص يحتفي بجماليات التجاور والتزامن والاختلاف والتناقض ويهمل عن وعي مسبق جماليات التشابه والتناسق والتناظر. |
|