تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


العــدوّ

ملحق ثقافي
11/8/2009م
قصة: نواف أبو الهيجاء

ربما كانت ثلاث لكمات ، وربما ترافقت مع ركلتين أو ثلاث في القفا ، وضربة بجمع واحد وربما بجمعين معا على اليافوخ ، قبل ن ينعم ( جاد الله الخليلي ) بالغياب إما عن الوعي وإما عن الإحساس بالألم .

لم يكن ما شعر به يعني الإغماء ، حسب معرفته،، فهو يعلم أن الإغماء لا يمكن أن تتخلله كوابيس أو أحلام . وهو يعلم ،في الوقت عينه ،أن النوم الطبيعي في أعقاب كل هذا الألم المبرح – أمر مستحيل . ماذا حدث له بالضبط ؟ قام أمام الجميع وأمسك بالزمام ، ثم هتف : يا خالي من قتل أبي ؟ من كل الجهات جاءه الجواب ، والصدى معه : إنه العدو .لكنه عاد يسأل : ومن هو العدو ؟ فتطاحنت وتدافعت وتزاحمت من حوله الإجابات وترددت أصداء الكلمات – لكن ليس بكثير من الوضوح :‏

العدو أشقر الشوارب ، أزرق العينين ، أبيض البشرة ، أحمر الوجه ، يضع على رأسه (برنيطة ).0 ويحمل سلاحا ناريا آليا في العادة ، ويركب في دبابات أوفي مصفحات ، وهو لا يأتي على ظهور الخيل ولا يركب العربات أو الحناطير إلا للتنزه في شوارعنا وفي حاراتنا وعلى شواطئنا . وهو حين يتكلم ( يرطن ) وحين يتحدث بالعربية يجعل المذكر مؤنثا والمؤنث مذكرا و يلثغ ، ويلفظ الراء غينا .. وهناك استثناء وحيد في هذا ، فهو لايقلب الراء غينا حين يخاطبنا ، ولكنه يقول ( أرب ) وهو يقصد ( العرب).‏

حين قرر الخليلي أن يستعرض الوجوه التي تحلقت حوله وجدها ، سمراء، والشوارب كانت سوداء ، والعيون إما سوداء وإما بنية دكناء ، هي ، إذا ، ليست وجوه أعداء . فقام من فوره وتهللت أساريره ، وأحس بكثير من الطمأنينة ، وانثال في فؤاده جبل من الحب ، ما دعاه إلى أن يفتح ذراعيه ويركض نحوهم ليحتضنهم واحدا واحدا ، وكان يود لو أنه قادر على أن يحتضنهم كلهم دفعة واحدة .‏

حسن جدا ، اختار أن يبدأ برجل هش له وبش ،وهو ذو عينين سودواوين وسيعتين وله شاربان سوداوان كثيفا الشعر ، ويضع العقال الأسود فوق الكوفية البيضاء . كانت ابتسامته عريضة ، وهو يحاول استقبال الخليلي الذي كان يهرول نحوه ، فبادر إلى تعديل وضع عباءته الصفراء المذهبة فوق الكتفين . ما درى الخليلي إن كان احتضن الرجل أم احتضن الكون كله في لحظة نشوة نبعت من اكتشاف وجوده حيا ،وفي وسط الأهل والعشيرة ، لكنه متأكد أن وخزة صاعقة ضاغطة مباغتة كانت ترتطم فورا بفقرات ظهره الوسطى ، ما أرغمه هذه المرة على إطلاق الصرخة وكأنه يفجر قنبلة موقوتة من الألم :‏

من هو العدو ؟‏

اسم الله عليك يا جاد الله . ما بك تتقلب وتزبد وتبكي وترفس وتركل الفضاء وأنت نائم ؟‏

من قال له هذا الكلام ؟ من أيقظه إن كان قد استيقظ ؟ أهو نائم أم هو صاح يقظ ؟‏

أصحيح أنه كان نائما ، وان ما كان قد وقع لم يقع ، وان العدو صار له أكثر من وجه وأكثر من لون وأكثر من لغة ، وأكثر من وسيلة تعبير عن تنويعات تجلياته العدائية مابين قذيفة لهب ووخزة خنجر مسموم في الظهر ؟‏

حاول أن يفتح عينيه مرة أخرى عله يؤكد لنفسه في الأقل انه ليس ميتا وأنه لم يطعن بخنجر في الظهر ، وانه يكتنز – حتى اللحظة – صورة العدو الحقيقي ،ولكنها لم تكن تماما كما وصفها له خاله وهو يرى أباه جثة ملقاة في الطريق غارقة بدمها . كان ثمة في عيني أبيه ما أرعبه – حين تأملهما . يعرف منذ زمن – وليس يذكر من أخبره – أن القاتل الذي يطعن أو يقتل الضحية تنطبع صورته في بؤبوي عيني الضحية .آخر ما تراه عينا الضحية هو ( الجاني ) – إلا إن كان القتل غيلة ، أي بطعنة أو برصاصة من الخلف . ما قرأته عينا الخليلي جاد الله في عيني أبيه قبل أن ينهض خاله بمهمة إغلاقهما كان وجها ليس له عينان زرقاوان ولم تكن شواربه شقراء ولم يكن يضع على رأسه برنيطة ، ولم يكن الخليلي متأكدا إن كانت بشرة الوجه في النهاية حمراء – بل ربما كانت سمراء . فكيف له أن يتأكد من القاتل لكي يبحث عنه ويثأر لأبيه ؟‏

نهض الخليلي من نومه ، وكان يجرجر رجليه بثقل باد بعد أن تناهى إلى مسمعيه صوت طرق على الباب . توجه نحو الباب وهو يتثاءب ، فتحه ، فما رأى إلا ورقة تغطي وجه الطارق ، كانت تقول بصوت عال :إنذار بإخلاء الدار وما حولها – الحاكورة – كلها – فهي ملك خالص للياهو شالوم بشهادة .. وتوقف الخليلي عن تتمة القراءة – امتدت يده اليمنى تبعد الورقة عن وجه القادم ليكتشف أنه لم يكن ذا عينين زرقاوين ولا خضراوين ، ولم يكن له أي شارب البتة ، وكانت سحنته اقرب إلى (العرب ) منها إلى ( الأرب ) وكانت العباءة الصفراء الذهبية ترصع الكتفين ، مع ابتسامة :‏

أنا كنت شاهدا . أبوك الله يرحمه باع كل شيئ لهذا الرجل.‏

تنبه الخليلي إلى أن الرجل لم يلثغ .. بل أشار إلى من كان في حال اختباء وراءه، فإذ به يقرأ صورة الوجه الذي كان آخر ما انطبع في عيني أبيه . صاح :‏

ويلك ، انه قاتل أبي .‏

أبوك ماذا يا ولد ؟ أبوك مات ميتة ( ربه ) ولم يقتل .‏

وهذا الوجه ؟‏

إنه من أولاد عمك يا محترم .أمامك ثلاثة أيام وإلا اعتقلك الأمن كونك ستصبح خطرا على الإستقرار والأمن في البلد .‏

ضرب الخليلي جاد الله على جبينه ، وصفق الباب في وجهي القادمين ،وعاد كالمجنون يفتش في أركان البيت ، بحث في الخزانتين في غرفة النوم ، وفي دروج المكتب ، وخلف الصور المعلقة على الحيطان ، وفي المطبخ ، فما وجد إلا سكاكين المطبخ الخاصة بتقطيع الفاكهة . فعاد إلى الباب يفتحه ليفاجأ بخاله قدام عينيه :‏

الحمد لله انك جئت يا خالي .‏

تنحى عن الباب وشرعه قدام خاله الذي لم يتزحزح ، وكان فقط يركز عينيه في وجه ابن شقيقته :‏

ما الحكاية جاد الله ؟‏

خالي يقولون ..‏

قاطعه خاله :‏

- إنس . الحمد لله أننا أخيرا أقنعنا السلطة بالإفراج عنك ، هيا معي . غادر هذه الزنزانة حالا .‏

فرك جاد الله الخليلي عينيه ، وهز رأسه كأنه ينفض عنه الغبار ،وحاول أن ينظف مجريي السمع في أذنيه ، ثم استوى واقفا . . يحاول احتواء ما حوله بشبكتي نور مقلتيه.‏

كان كل شيئ يختلط في كل شيئ ، الألوان كلها ، الملابس كلها ، والأصوات كلها ، وحين هتف :‏

من هو العدو يا خالي ؟‏

تناتشته الإجابات كما تفعل كلاب الصيد بالفريسة ، ولكنه لم يستطع إلا استيعاب جملة واحدة فقط :‏

فتش عنه تجده .‏

لو كنت أعرفه أكنت سألت وطعنت و ضربت وسجنت وانكسر ضياء ظهري فوقعت في قلب شجرة صبار ؟‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية