|
ملحق ثقافي
اجتماعية جديدة على شرف تلك التغيرات الجذرية التي وضعت الإنسان الفرد في موقع المسيطر على الطبيعة، مما أدى لزوال كل الأوهام القديمة حول تبعيته للقوى الغيبية، والخرافية، التي رافقت تفكيره منذ عصور ما قبل التاريخ. لقد تراجعت تلك المعتقدات في العصر الحديث إلى الخلف، مع تراجع الفئات الاجتماعية التقليدية الوارثة لها، والتي أُزيحت عن مسرح التاريخ بفعل صراعات دموية اتخذت أشكالاً عدة منها السياسي والإيديولوجي وحتى الديني. و كل هذا انعكس على المسرح بشكل صريح، حيث لم يعد الفرد معنياً بالأبطال التراجيديين ولا يغريه التعرف على مصائرهم، فما يعنيه الآن بالدرجة الأولى هو موضوعاته الأرضية في سعيها لاستجلاء الواقع، لقد تأنسن كل شيء و نزل الإنسان من علياء البطولة والتأله إلى كائن أرضي، وهذا ما جعل للمسرح وظيفة جديدة كما لغيره من الفنون والآداب، فتغير البنى الاجتماعية رافقه تغير بالمهام العملية المناطة بكل نشاط فني أو أدبي يرصد الفرد وتجربته الحياتية، حيث توجب على المشتغلين في الحقل الفني صقل أدواتهم المعرفية والفنية لتتناسب مع الواقع الجديد، الذي لا يعرف حدوداً للمعاناة الإنسانية، كما لا يعرف حدودا لأشكال التعبير عنها. وعلى الذات المبدعة فهم رسالتها انطلاقا من ذلك الواقع الذي هو وسيلتها وغايتها في آن معا. وهذا ما يحيلنا إلى الواقع الحالي للمسرح في سورية ، وحقيقة ما قُدم على مسارحنا من عروض في موسم مضى. من حيث القيمة الفنية، والاتجاهات الفكرية، وأخيرا العلاقة مع الجمهور،أما عن طبيعة الوظيفة الاجتماعية للمسرح، فإنها ظرفية ومتغيرة ،ومرتبطة بالواقع الاجتماعي والحراك الذي يعتور القوى الاجتماعية المتصارعة ضمنه. على الرغم من أن بعضا من مُشتغلي المسرح ينفون ضرورة هذه الوظيفة ويعتبرونها سقط متاع. أولا لا أحد يجادل في تميز أعمالنا المسرحية من حيث القيمة الفنية بشكل عام، مع بعض الاستثناءات الغير مؤثرة، إذ تصادفنا أحيانا قلة من العروض الضعيفة فنيا والتي لا يعود سبب ضعفها إلى الإخراج أو التمثيل، بل كما سنرى لاحقا أن هذا الأمر مرتبط بشكل وثيق بالنص والمقولة العامة للعرض. إن ما يجعل أعمالنا المسرحية متماسكة فنيا هو توفر الإعداد الجيد لكادراتنا، إن كانوا ممثلين أم مخرجين أم فنيين، نتيجة وجود المعهد المسرحي، إضافة إلى الخبرة الجيدة و الطويلة التي تراكمت لدى الكثيرين عبر المثابرة والمشاركة بعدد لابأس به من العروض. أما النقطة الأهم برأينا والتي نجدها تتحكم بمستوى وقيمة نتاجنا المسرحي فهي تنحصر في طريقة بناء النص والمقولة العامة للعرض، بغض النظر عن كون النص مترجما أم عربيا أم محليا، ففي عرض تيامو لرغداء الشعراني، واجهتنا موضوعة الحب، التي طالت العرض بأكمله. لقد تمرد أبطال عرض تيامو على واقعهم الشكسبيري، وهو تمرد العقل على الحس، فالحب في واقعنا الحالي، وكما قُدم لنا في عرض تيامو يجب أن يكون خارج سيطرة المقدس والتقاليد وكل قيد يمكن أن يتحكم بعواطفنا الإنسانية، أي أن الجيل الشاب يريد أن يحيا على هواه بعيدا عن أي رقابة مهما كانت. والملاحظ في عرض تيامو ككل هو غياب الخلفية الاجتماعية والفكرية لأبطاله، مما جعلهم شخصيات معلقة في الهواء و قضيتهم تتلخص بالتبعية لرغباتهم ونزواتهم. وفي عرض كذا انقلاب أراد المخرج بسام كوسا تعرية شريحتين اجتماعيتين ، وهما ما يمكن تسميته بالبورجوازية البيروقراطية، والبورجوازية التقليدية، وغيرها من الطبقات الوسطى الطفيلية الصاعدة، التي تحتاج إلى نفوذ الأولى لتزيد من ثروتها.حيث ثمة تناوب في المواقف يجري بين الطرفين، وذلك من خلال رجل حكومة يريد الاقتران بإحدى بنات تلك العائلات، وهو مرحب به كعريس مستقبلي طالما بقيت حكومته في السلطة، وهذا ما لم يكن مضمونا فالحكومة متعثرة وآيلة للسقوط، بالطبع كان المذياع الكبير الموضوع على الخشبة، أحد الأبطال الدراميين للعمل، لأن أنباءه عن وضع الحكومة هي التي كانت تحدد إمكانية أن يصبح العريس عريسا.فصراعه مع أهل عروسه كان يتخذ شكلا واحدا متناوبا طوال العرض، ولم تفلح الكوميديا في إخراج هذا الصراع من مأزقه، وهو ليس مأزقا دراميا بالدرجة الأولى بل فكريا، فبالإضافة إلى تلك المباشرة والسطحية في طرح وجهة نظر العمل، ثمة أُحادية في الرؤية والموقف مما يجعل من الصراع أمرا نافلا، وتبعا لذلك تتخذ المقولة في هذا العرض وضعية مُلتبسة وإشكالية. أما في تكتيك عبد المنعم عمايري فإننا نلمس منطقا آخرا في توليفة الأحداث، فهنا تتعثر المقولة بمسبقات جاهزة ومقولبة، فالزوج السكير واللامبالي ، يتسبب بخراب أُسرته، إذ غادرت زوجته المنزل هربا منه قبل ستة عشر عاما، وهاهي تعود فجأة مع بداية أحداث العرض لتجد أن ابنتها أيضا قد هربت من منزل والدها لذات السبب، مما يعني أن عادات الزوج لم تتغير طوال تلك المدة الطويلة، مع العلم أن ذلك الزوج يحمل أفكارا ثورية ، ولازال متمسكا بها رغم الدمار الذي ألحقه به إيمانه بتلك الأفكار، ثمة حتمية مُفترضة هنا، مع أن التاريخ لا يحتمل تلك الافتراضات والحتميات، لأنها تنافي منطق العلم بقوانين التاريخ ذاته. ومن ناحية أخرى انصب جهد المخرج على ربط حكاية هذه العائلة مع أنماط أخرى من البشر الذين نبذتهم الحياة وحولتهم إلى عناصر سلبية وغير فاعلة في المجتمع. تعاني المقولة العامة لعرض تكتيك من التشتت لأنها ترصد واقعا متخيلا ولا تحاول بناء النتائج بل تستسهل بلوغها و تتسرع في إطلاق الأحكام. وفي عرض أُوضة سورية ، سعت المخرجة عُلا الخطيب إلى ابتكار نص محلي يتحدث عن معاناة الشباب و همومهم اليومية، من خلال زوجين شابين ضاقت بهما السبل نتيجة شظف العيش وصعوباته بالنسبة لمبتدئين تكاتف الجميع على مضايقتهما مما أدى إلى فشل هذا الزواج وانهياره.لقد نجح هذا العرض فنيا، ولكن مقولته أنّت تحت وطأة تعميم حالة خاصة، مما جعل الحدث يتطور في اتجاهات مبالغ بها وقسرية. أما عرض الشوكة ، وهو عن نص للكاتبة الفرنسية فرانسوا ساغان وقد أخرجه منصور السلطي ،فقد عانى هذا العمل من الضعف فنيا وفكريا، بسبب الأمانة المبالغ بها للنص الأصلي، الذي يشكو من ضعف بنائه الدرامي، وهُزال الأفكار التي يحملها، فالمخرج لم يسع إلى معالجة النص لجعله أكثر عمقا، بل تبنى فكرة الكاتبة دون تمحيص . لقد اتسم جُل النشاط المسرحي في الموسم الماضي بالتجريب، إن كان على الصعيد الفني أم الفكري. بالطبع ثمة تفاوت في هذا الأمر بين عرض وآخر، ففي عرض دون كيشوت إعداد كفاح الخوص، و إخراج أسامة حلال،نحن أمام عمل تكثّف فيه التجريب ليطال كل ثنايا العرض، حيث تم التركيز على إعادة إحياء شخصية دون كيشوت رغم موته المتكرر على يد تابعه سانشو، فللولادة المتكررة أيضا جدلها الخاص التي لا يمكن فك رموزها إلا عبر التخلي عن المرجعية الدونكيشوتية الأصلية، فرغم عدم واقعية الأحداث إلا أنها تقارب واقعنا من حيث المقولة العامة للعرض. بمعنى آخر تطابقت الفكرة مع النص دراميا، ونجح الإخراج في تبنيها وإنضاجها فنيا. أما عن العلاقة مع الجمهور فاللافت للنظر في هذا الموسم ، هو الإقبال الكبير من قبل الجمهور، والمثابرة على حضور كل العروض مع بعض الاستثناءات، ولهذا الأمر أسباب عدة، منها لجوء بعض المخرجين لإشراك نجوم ونجمات التلفاز في عروضهم، والشيء الآخر مرتبط بنشوء ما يُسمى بالرأي العام المسرحي، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار أنباء العروض التي تلقى استحسانا جماهيريا عبر طرق مختلفة، إضافة إلى أمر هام آخر ألا وهو اكتساب بعض المخرجين لثقة الجمهور، نتيجة نجاح أعمالهم السابقة. إذاً ثمة أسباب كثيرة تجعل الجمهور متابعا للشأن المسرحي، مع علمنا بأن الجمهور ينتمي لخلفيات اجتماعية وثقافية متعددة ومتنوعة، ومثابرته على اختلافه لحضور المسرح بأعداد كبيرة لا يُعطي أي عرض شهادة جودة، وهذا الاستنتاج لا يقلل من قيمة الجمهور أو يسيء لذائقته، فالمتفرج قد لا يتفق مع وجهة النظر أو الرؤية المقدمة خلال العرض، ولكنه يبحث عن المتعة،حيث كلنا نعلم مدى أهمية هذا الطقس في حياة الشعوب، لأن المسرح تجربة وجدانية تخص الشعور الجمعي والفردي على حد سواء. وانطلاقا مما سبق نقول أن للمسرح وظيفة اجتماعية وهذا الأمر لا يمكن لأحد تجاهله، حتى وإن اتسمت عروضنا ككل بالتجريب، لأن أحد سلبيات هذا الشكل الفني تكمن في عدم القدرة على إنضاج تقاليد مسرحية لديها اتجاهات ومدارس فنية تكرس الجهد الإبداعي وتحفظه للأجيال القادمة. وإلا سوف يتحول نشاطنا المسرحي إلى النخبوية، ونستمر في الدوران في حلقة فنية مفرغة، لا هدف لها سوى البحث عن المجد الذاتي والمؤقت والزائل. |
|