تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


هموم البرتقال

معاً على الطريق
الإثنين 1-12-2014
أنيسة عبود

للناس همومهم ..وللبحر همومه وتعاريجه التي تزيد من جماله ..ولشجر الشربين المتكئ على خد الأرض همومه التي يطلقها في الهواء ويغفو. أما البرتقال الذي يهمس اسمه همساً فله همومه التي تبدأ كل شتاء ولا تنتهي مع الصيف.

فما الذي يقلق هذه الشجرة المباركة التي تمتد على طول الشريط الساحلي، والأماكن الدافئة في وطني ؟. صار البرتقال والزيتون إضافة إلى القطن والقمح مفخرة للسوريين بعد أن كنا نستورد هذه المحاصيل ..وهنا أتذكر البرتقال اليافاوي الذي كان يشتريه أبي من السوق ..وكان حلماً بالنسبة لنا نحن أطفال القرية أن نلعب بالبرتقالة ونشم رائحتها قبل أن نأكلها ..لكن ومع انتشار زراعة هذه الشجرة ..بعد قطع بساتين كثيرة من الزيتون لتأخد مكانها أشجار الحمضيات إضافة إلى البيوت البلاستيكية التي انتشرت انتشاراً واسعاً في سورية، دون الانتباه إلى أضرارها البيئية والصحية ..حزنت على بساتين الزيتون التي كنت أراها مقطوعة ومستلقية على حواف الطرق الزراعية ..فكرت أن يوماً سيأتي وسنقطع أشجار البرتقال أيضاً ؟ صارت الشجرة الأولى في سورية. ازدادت المشاتل ..وازدادت الإنتاجية ..وعملت مراكز الأبحاث على التطوير والتحديث وإضافة أصناف جديدة إلى البلد ..لم تعد برتقالة اليافاوي التي كان يشتريها أبي الوحيدة في السوق ..ولم يعد لرائحته ذاك الحلم ..مللنا من البرتقال ..وملّت السوق من زحمته ..لم يبحث المسؤولون الزراعيون عن أسواق ..ولم تقم وزارة الزراعة معامل للعصير ولا مصانع للتشميع ..بل ناب عن كل ذلك مؤسسة الخضار والفواكه التي تشبه مؤسسة على الورق، حيث تتعامل مثل سوق الهال. وأحياناً التعامل مع سوق الهال أسرع وربما أكثر جدوى بسبب التصنيفات، والترتيبات - و- أحياناً.‏

لذلك تحول موسم البرتقال إلى عبء على المزارع الذي استسلم لهذه الزراعة الكسولة ..وصار يندب حظه بسبب الأسعار وتلاعب التجار ..وزاد في الطين بلّة ..إلغاء العبوات الخشبية التي تردّ للمزارع أو تستبدل ليملأها من جديد ..فلا يتكلف الفلاح سعر العبوة كل مرة ..إن انتشار العبوات البلاستيكية أساء إلى مردود شجرة البرتقال المادي ..وإلى البيئة ..صارت العبوات صناعة جديدة في البلد وصار المزارع يتأفف ويصرخ ولا من مجيب ..عبوات لمرة واحدة. أو لمرتين، ولتضرب رأسك في الحائط أيها الفلاح ..معامل البلاستيك ستعمل ..إذاً اسكت ..وسكتنا جميعاً مع أنني كتبت مرات حول ذلك وناقشت مرات في المؤتمرات الزراعية ..ولكن كما كل المؤتمرات (حتى الأدبية) تخرج بتوصيات وتبقى حبراً على ورق.‏

واليوم الحمضيات ما تزال على الشجر ..البرد قادم والصقيع قادم والحاجة مرة، والمزارع لا يدري ماذا يفعل بموسمه الذي لا يعرف كيف يبيعه ولا كيف يصرّفه ..لقد تدنت أسعار الحمضيات بشكل مخيف، بحيث لا تغطي حتى أتعاب سقايته..ولا أسعار أسمدته. صار الفجل أغلى وصار النعناع أغلى ..فماذا يفعل الفلاح بأشجار اشترى الماء لسقايتها وانتظر أن يعينه موسمها على الغلاء وشظف العيش ؟‏

إن سعر البرتقال منذ عشرين عاماً كان أفضل بكثير ..وكانت التكلفة أقل بكثير ..لدرجة أن أصحاب بيارات الليمون كانوا من الميسورين ..فماذا يحدث الآن يا حضرة المسؤولين ..؟‏

هل نقطع الأشجار من جديد ؟‏

هل نعيد سيرة مجازر الزيتون فتصير شجرة البرتقال شهيدة الفوضى وسوء التخطيط ؟ لماذا لم يترشد عدد أشجار الحمضيات من المشتل إلى أن يصل إلى السوق كما تفعل الجهات المختصة مع القطن والتبغ ؟..لماذا سمحت بتعويم السوق ؟ ولماذا لم تحدد المساحات المفروض زراعتها حتى ينتقل المزارع إلى زراعة جديدة ؟ ما أعرفه أن الدولة منعت زراعة الزيتون وأشجار أخرى في الجزيرة السورية وفي مناطق أخرى كي تبقى الجزيرة أم القمح والخبز ؟ ربما سيضطر المزارع لقطع شجرة الحمضيات بسبب سوء الأسعار أو سيرغم على قطعها لاحقاً..بسبب تحول المناخ وازدياد الجفاف وانتشار التصحر في سورية.شجرة الحمضيات تحب الماء وتحتاج إلى كميات كبيرة وهي غير قادرة على الصبر إذا ما عطشت ..وحالياً تشير الدراسات (ذكر خبراء في التربة والري في ندوة للبحوث العلمية الزراعية) أن الحوض المائي الجوفي في الساحل السوري سطحي وضعيف جداً والمنطقة مقبلة على الجفاف ..لذلك على المزارع أن يبحث عن زراعة جديدة لا تتطلب الماء الكثير كما تتطلبه شجرة البرتقال ..وحقيقة أن بساتين كثيرة تهدمت إنتاجيتها هذا العام بسبب العطش وبعضها انهار تماماً ..فهل نعود من جديد إلى قطع أشجار البرتقال وزرع أشجار الزيتون التي تصبر على العطش والجوع وتشبه السوريين الصابرين في أزمتهم الاقتصادية الخانقة ؟.. لكن سنتذكر رائحة البرتقال واليافاوي..وربما نبكي.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية