|
دراسات ومهما اختلفت الرؤى في وصف عمليات التبديل أو التحديث أو الإصلاح أو التغيير التي تجري في بلد ما عبر سواعد أبنائه,ومهما تعددت الآراء وتمايزت وتشعبت وجهات النظر بين مفاهيم الانقلاب والإصلاح والثورة,تظل التسمية المثلى لدينا لما جرى في مصر على يد أبنائها يوم الثالث والعشرين من تموز عام 1952 هي (الثورة),نظراً لما أحدثته من تبدلات وتغيرات في البنى والأفكار على مختلف الصعد المتنوعة بحياة الشعب المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام. وإذ تلعب الثورات العالمية دوراً كبيراً في بث المفاهيم والأفكار والثقافات بمواقع انطلاقها,ثم تتسع لتشمل مناطق أكبر,فإن ثورة تموز بالإضافة إلى هذا وذاك,قد تميزت عن غيرها من الثورات,بأنها كانت ثورة بيضاء خالية من الدماء,كما تميزت بعمق واتساع التغيير الوطني الذي أحدثته في مصر وامتد حتى شمل كل مؤسسات المجتمع وقيمه وأنماط السلوك فيه,ولم يكن هذا التغيير لمصر وحدها بل أثر على الساحة العربية بما بثه فيها من روح نهضوية جديدة,فقامت الثورات وامتدت من المحيط إلى الخليج,كما امتدت آثار ثورة تموز على الساحة العالمية,فبرزت مجموعة دول العالم الثالث على إثر مؤتمر (باندونغ) الذي تم بقيادة الرؤساء الثلاثة (جمال عبد الناصر ونهرو وتيتو) وظهرت قرارات عدم الانحياز والحياد الإيجابي الشهيرة. لقد أدت الأجواء غير الصحية على مختلف الصعد والآفاق والتي كانت سائدة في مصر العروبة إلى قيام الضباط الأحرار بثورتهم الغراء في تموز,إذ شكل الفساد السياسي قبل الثورة على مستوى القصر والأحزاب حالات ظالمة ومظلمة جرت مصر عكساً لتبقى الغنيمة الناجمة عن جهد الشعب المقهور لأفواه الملك الفاسد (فاروق) الذي كانت حراب الإنكليز تحميه مقابل تسهيله نهب ثروات الشعب المصري لصالحهم من جهة وما قام به الباشاوات والإقطاعيون وقادة الأحزاب من جهة أخرى. إن الأحزاب التي كان من المفروض عليها أن تقود الشعب وأن تكون المعبرة عن رغباته والدفاع عن حقوقه,لم تنفذ هذا ,ولم يكن لها من هم سوى الوصول إلى الحكم,واستغلال الفرص لنيل المكاسب عبر مختلف الطرق,وكان الملك يدرك اللعبة السياسية بإتقان,فراح يثير الاضطرابات بين الأحزاب وقادتها من جهة,ويسترضي الإنكليز من جهة أخرى فتصاعدت الرشوة وعمت الوساطة والمحسوبية,وانتشر الرياء والنفاق والكذب والدجل على الساحة السياسية, وسيطر الوصوليون والانتهازيون والرأسماليون والباشاوات والإقطاعيون وقادة الأحزاب على الحكم,ما شكل ظلماً اجتماعياً كبيراً على الشعب,وبرز بشكل أكبر من خلال عدم توزيع الأراضي بصورة عادلة بين الشعب,واحتكار عدد قليل من الإقطاعيين لأكثر الأراضي الزراعية,بينما كان الفلاحون يعملون كأجراء في مزارع الملاكين,فانقسم الشعب إلى أقلية من الأسياد,وأغلبية من الفقراء,وانعدمت العدالة الاجتماعية بينهم. فإذا أضفنا إلى ذلك ما أصاب الجيوش العربية من خيبة أمل في أيار عام ,1948أثناء حرب فلسطين مع الصهاينة,وتغلب الصهاينة على العرب,بفعل عمليات الخيانة وتفكك الحكومات العربية,الذي أدى إلى شعور المواطن العربي بهدر كرامته والتي زاد فيها شدة الغضب للشعب المصري,بتأثير قضية الأسلحة الفاسدة التي زودت بها الحكومة المصرية جيشها المحارب في فلسطين,فقتلت أعداداً منه بدلاً من الصهاينة ما شكل حالة اختمار ثوري في النفوس والمهج لدى الضباط الأحرار ومعهم الشعب,والتي بلغت ذروتها في أحداث عام 1951 والناجمة عن فشل الحكومة في عملية تحرير الوطن وإلغاء اتفاقية 1936 في مصر واتفاقية 1899 في السودان,ووقوف الشعب المصري إلى جانب قضاياه في تحرير الأرض,وما بذله هذا الشعب الأبي من دماء على أرض القناة في مواجهة البريطانيين,أدت كلها إلى استياء عام ,عبرت عنه صيحات الأدباء والمفكرين والوطنيين في البرلمان والتي راحت تندد بالفساد وتنتقد القصر الذي أساء للبلد فاندفع الضباط الأحرار في فجر الثالث والعشرين من تموز للقيام بالثورة وأجبروا الملك على التخلي عن الحكم للثوار بشكل كامل وكلي فتخلص الشعب من طاغية كان على رأس كل فساد. لقد أدرك رجال ثورة تموز,أن مهمة الثورة ليست في القضاء على الظلم فحسب بل بضمان التحرر المصري,ومن هنا عملوا على تفجير المد الثوري في الساحة العربية في إطلاق شرارة الثورة من مصر إلى هذه الساحة,لإيمانهم أن امتداد الثورة وتجانس المواقف العربية سيشكل الضمان الحقيقي للشعب. لم تكن ثورة تموز إذاً انقلاباً على حكم كما يدعي بعضهم,ولم تهدف إلى تغيير حكومة لتنصب حكومة أخرى,بقدر ما كانت ذات أهداف أكثر شمولاً وأبعد عمقاً,إذ عملت على تغيير جذري واضح المعالم والأبعاد لتحقيق مصلحة الوطن والشعب وكي تؤهل ذاتها لتكون الإقليم القاعدة في عملية التغيير بالوطن العربي. لقد حددت ثورة تموز إطار عملها الداخلي في الأهداف والمبادىء الستة التي تركزت حول مقاومة الاحتلال والقضاء على الاستعمار,والقضاء على الإقطاع,والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم,وإقامة العدالة الاجتماعية عبر النهوض بالإنتاج ومحاربة الفساد,وبناء الجيش الوطني وإقامة الحياة الديمقراطية السليمة. وانتقلت الثورة من حيز التنظير إلى حيز التطبيق مع بدء الانطلاقة الثورية,وهي حين وضعت على رأس أهدافها القضاء على الاستعمار وأعوانه والقضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم, كانت تدرك ما تريده تماماً,وهي في هذه الأولية إنما أرادت تحقيق الحرية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب حتى ينتقلوا من حالة العبودية السابقة إلى حالة البناء الوطني الشامل المأمول. ويمكن القول:إن الضباط الأحرار قد حددوا بدقة مواطن الفساد والإفساد فراحوا يضعون على رأس أولوياتهم القضاء على منتجيه بهدف تحرير الشعب,ولكي يكون الحكم في خدمة الشعب وليس لخدمة فئة صغيرة حاكمة تسيء له وتدمر حياته. لقد أدرك ثوار تموز حجم التباين الطبقي والتمايز الاجتماعي الذي نجم بفعل قادة الفساد في البلاد فأسقطت الثورة هذا التمايز من خلال تحويل الفلاحين والعمال إلى ملاك حقيقيين بفعل قوانين الإصلاح الزراعي وقوانين العمل,فأزاحت عنهم الخوف والتسلط ووضعت بأيديهم القدرة على المساهمة في بناء الوطن من منظور الحرية بدلاً من منظور التبعية. ورسمت آفاق المستقبل بدقة علمية,إذا قامت الثورة بتوسيع مساحة الأرض القابلة للاستثمار,كي تستوعب عمليات التوسيع فيها الزيادة السكانية القادمة,وبنت قوتها الذاتية عبر تطوير الصناعة الثقيلة كصناعة الحديد والصلب والصناعة النفطية والكيماوية والتحويلية والهندسية,لإيمان الثوار بأن الصناعة هي القاطرة الحقيقية للاعتماد على الذات جنباً إلى جنب مع الزراعة والتجارة. وهي حين حولت النظام من ملكي إلى جمهوري,أرست بفعلتها هذه نقطة البداية السليمة لحكم مصر مستقبلاً من قبل أبنائها,والذي أحدثته الثورة لأول مرة بعد أن كان بيد الغرباء لقرون طويلة,ولسيادة المبدأ الديمقراطي الذي يكون فيه الشعب هو قائد سلطة الحكم وأعلنت عن قيام تحالف قوى الشعب العاملة,وتشكلت الهيئات السياسية في مصر مثل هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي والتي ابتدأت على مراحل امتدت منذ مطلع الثورة وحتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله عام 1970 والذي كان قائد الثورة وموجهها. لقد استطاع الرئيس جمال عبد الناصر استقطاب عوامل التغيير وإمكانياته التي تغص بها معظم الأقطار العربية,فحمل على كاهله أعباء ثورة كاملة شكلت مشروعاً نهضوياً للأمة العربية وقادت الرئيس عبد الناصر إلى الانتهاء السريع جسداً وبقي روحاً للأجيال الثورية القادمة بامتياز. وإذ لا ينكر أحد أن ثورة تموز قد شكلت تجربة ثرة ونموذجاً فريداً في تاريخنا العربي بشكل خاص ولشعوب العالم الثالث بشكل عام فإنها كذلك تجربة أمة لا تزال تأمل بالنهوض,قدمت مشروعها بتواضع وببساطة لشعب لا يزال قسم كبير منه يؤمن بمنطقها ويأمل بأنها ستدفع بالشرفاء العرب نحو واقع تغييري شديد الإشراق,وسترتفع راياتها في ربوع أمة تطمح بالعيش إلى جوار الشمس. |
|