|
ثقافـــــــة إن فوكنر الكبير - الكبير في تاريخ الرواية وتقنياتها - يرد على سؤال: هل تقرأ أعمال معاصريك؟ قائلاً: (لا.. الكتب التي أقرأها هي الكتب التي عرفتها وأحببتها، عندما كنت شاباً، والتي أعود إليها كما تعود إلى صديق قديم: العهد القديم، ديكنز، كونراد، سيرفانتس، دوستويفسكي، تولستوي، شكسبير، مارلو، كامبيون، جونسون، كيتس، شيلي، هاوسمان..). ويتابع ساخراً حول فرويد: (كان الجميع يتحدثون عن فرويد عندما كنت في نيو أورلينز، لكنني لم أقرأه أبداً، وشكسبير لم يقرأه أيضاً. أشك في أن ميلفيل قرأه، وأنا متأكد أن موبي ديك لم يقرأه). وطبعاً لم تعفه هذه السخرية والطرافة الفريدة من الإشارة إليه - رغم عبقريته - بالنقص والإهمال الخطير في الخوض في غمار علم هام - كعلم النفس - حضر بأبهة عظيمة في جلّ أعماله. ينتحر همنغواي في تموز 1961، ويعلق جون شتاينبك على موته: (لقد كان مغروراً جداً.. خلق صورة مثالية لنفسه ثم حاول أن يعيشها. أنا حزين لموته. لم أكن أعرفه جيداً. التقينا عدداً قليلاً من المرات، وكان دائماً لطيفاً معي، رغم أني سمعت أنه لا يتحدث كثيراً بالخير عن أعمالي في مجالسه الخاصة). وتنتهي فيما بعد حياة جون شتاينبك بالانتحار أيضاً، مع رسالة تدين الحروب في العالم. رغم أن فلاديمير نابوكوف روسي الأصل، إلا أنه درس في جامعة كمبريدج الأدبين الروسي والفرنسي، وعاش في برلين أكثر من خمسة عشر عاماً، ومنح الجنسية الأمريكية. يسأله أحدهم عن الكتاب الأمريكيين الذين يعجب بهم، فيجيب: (كنت معجباً ببو، ولا زلت أحب ميلفيل، أما مشاعري تجاه جيمس فهي معقدة. في الواقع فإنني أكرهه. هاوثورن كاتب عظيم، وشعر إيمرسون رائع)، ولا يجد نابوكوف نفسه إلا وقد أعلن بأنه لا يعجب بأفلاطون، بلا أي حرج، وكأن السطوة الأفلاطونية لم تجد طريقاً إليه. يرى النقاد في توني موريسون مثيلة لجويس وفوكنر بين الكتاب السود، لأنها تستكشف حياة الأمريكيين السود بلغة رفيعة متفوقة. نالت موريسون جائزة بوليتزر عام 1988 وجائزة نوبل عام 1992. تقول إنها تعي العنف الرهيب في العالم، وتنتقد تصوير بعض الكتاب لعالم السود، فهي تجد أن فوكنر كان ممتازاً في وصف السود، وهمنغواي أبدع في وصفهم أحياناً وأخفق في أحيان أخرى. أما مارك توين فقد فضح الأيديولوجيا العنصرية، في حين أن إدغار آلان بو أحب الفوقية البيضاء، وأراد أن يصبح جنتلمان، ويتسيد، فاتجه نحو العنصرية. لم يعد ماركيز - كما يقول - يقرأ الروايات، بل الكثير من المذكرات والوثائق، حتى ولو كانت مزورة، ويعيد أيضاً قراءة كتبه المفضلة لكتاب من مثل: كاواباتا، جويس، فوكنر. ويشرح ذلك قائلاً: (تخليت عن تلك الفكرة المقدسة بعدم قراءة شيء عدا الأدب. أقرأ كل شيء. أحاول أن أستمر في الاطلاع على ما يجري. أقرأ كل المجلات الهامة، من كل أنحاء العالم كل أسبوع). وقف المكسيكي أوكتافيو باث ضد بروتون وتروتسكي، رغم إعجابه بهما. أما نيرودا فكان ملهمه، لذلك فقد أرسل إليه نسخة من أحد كتبه. أصبحا صديقين، ثم تخاصما. يقول أوكتافيو باث: (كان نيرودا كريماً جداً، لكنه مسيطر جداً أيضاً. ربما كنت مستقلاً وغيوراً على استقلالي الذاتي.. المشكلة الثانية كانت سياسية. كان هو يصبح ستالينياً بشكل متزايد، بينما أصبحت أنا أكره ستالين أكثر فأكثر.. وأخيراً اختصمنا.. – كدنا نتعارك جسدياً – ولم يعد أحدنا يكلم الآخر. كتب أشياء ليست لطيفة عني، بما في ذلك قصيدة بذيئة.. كتبتُ أشياء رهيبة عنه. وهذا ما كان). الآخر – كائناً من كان – يؤثر في الشخصية الكاتبة، والاعتراف بالتأثر ليس عيباً يخرب هيبة الكاتب، ويدفع الآخرين إلى السخرية منه. فها هو ماريو فارغاس يوسا، يعترف بأنه شغف في فترة المراهقة بروايات جول فيرن وألكسندر دوماس وفيكتور هوغو وغيرهم من الروائيين الكبار، وبسببهم هام بعالم الكتابة، مشحوناً بكم هائل من التمرد على الطغيان. وهكذا، فقد جاءت روايته الأولى (المدينة والكلاب) متمردة وعنيفة وأشد تأثراً بأعمال الذين قرأهم من رواياته اللاحقة. ولم يخف يوسا تأثره بوليم فوكنر، بل لقد تفاخر بذلك، وأعلن أن تأثيره - أي فوكنر - كان كبيراً في أعماله: (تأثير فوكنر في أعمالي كبير جداً، وضعه الكثير من كتاب العالم في مصاف كبار القرن العشرين، فهو اخترع نظاماً عالمياً للرواية، وابتكر حبكة جيدة للقصة وأدخل إلى النثر الإثارة والترقب. تشبه عوالم فوكنر عوالم أميركا اللاتينية: مجتمع ريفي فيه الكثير من العناصر الإقطاعية والإثنية، وجعل هذا التقارب الكثير منا يتأثرون به. اكتشفته حين كنت شاباً، انبهرت من طريقته البارعة في تنظيم الحبكة، الزمن المتشابك، طريقته في توليد الأحداث. لا يوجد كاتب من أميركا اللاتينية من جيلي لم يتأثر بشكل مباشر بفوكنر). نحن، هنا، لا يبدو أننا نقرأ لبعضنا، وفوق هذا وذاك، لا نقرأ لغيرنا من كتاب جيلنا أو كتاب الأجيال التي سبقتنا. الشيء الوحيد الذي يهمنا - أكثر من هذه القراءة البائسة - أن نكتب أي شيء وبأي طريقة كانت، ونتيه بمجموعة من الأحرف التي جمعت في كتب لا تهم أحداً، ولا حتى نحن أنفسنا. إنها الكتب التي إذا اختفت من تاريخ الرواية لن يحزن أحد عليها، ولن يعنفنا ضميرنا على عدم قراءتها. الشيء الوحيد التي تريده هذه الروايات أن تتم قراءتها من قبل بعضنا، والإشادة بها بأنها أجمل ما تمت كتابته، والمطلوب منا نحن: التصفيق، والتصفيق المستمر لهذا الابتذال وذلك الوهن، إذ ليس من واجب الكلمات عندنا أن تجعل الكون متناسقاً، كما يقول ألبرتغو مانغويل. |
|