تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عبق حلب..

إضاءات
الثلاثاء 14-4-2015
سعد القاسم

كأن شريط صورٍ من زمن قريب يتداخل مع آخر من زمن أقرب، مصطحباً كل منهما ذكريات ومشاعر تتنقل بين الرضا والأسى،كلما قاربت ما كان الحال عليه، وما آل إليه..

مرتان وضعتنا دار أوبرا دمشق في تلك الأحاسيس المتباينة.الأولى يوم استضافت حفلاً لصفوان العابد منذ بضعة أسابيع، والثانية خلال استضافتها لحفل مصطفى هلال قبل أيام قليلة. فالمغنيان الحلبيان لم ينقلا إلى الصالة الدمشقية أجواء الفن الحلبي من طرب أصيل، وأصوات ساحرة، وألحان مبدعة، وعزف بارع فحسب. وإنما استحضرا في الصالة المغلقة آلام، وذكريات أفراح،تلك المدينة المنفتحة على المكان والزمان. حلب واسطة عقد حضارات العالم القديم، التي حفلت كتب الأولين باسمها، ومواكبة إنجازات الزمن الراهن، التي وُصفت عن جدارة بالعاصمة الفنية والثقافية والصناعية لسورية . وهذا بعض ما جعلها تشغل في ضمير كل محبٍ لسورية مكانة متفردة، وفي ذاكرته ما لا يحصى من الحكايات والمشاعر والصور. فتفرحه أفراحها، وتسحق أحاسيسه آلامها..‏

دمشق وحلب توأمان بحكم الجغرافيا والتاريخ والثقافة والتكامل الاقتصادي.ويوم كانت سورية تكاد تخلو من الطرق، كان الطريق بينهما ممراً للقوافل القادمة من أقصى الشرق حاملة الحرير والخزف والورق والتوابل والأشعار والأغاني والحكايات، ومثلها القوافل القادمة من أقصى الجنوب العربي حين تقطع الحروب طريق الحرير البري، فتنتقل البضائع عبر البحر لتحط رحالها في موانئ اليمن، ثم تحملها القوافل بعد ذلك إلى دمشق وحلب، ومنها إلى أوروبا.‏

تبدل الزمان ولم تتبدل العلاقة الوثيقة بين أهل المدينتين رغم كل ما قاستا من أهوال عبر تاريخهما المتخم بأطماع الغزاة واللصوص.كانتا في بعض الزمان دولتين منفصلتين، وفي أزمان غيرها ولايتين شبه مستقلتين في دولة واحدة، وغير مرة فصل الغزاة والمحتلون بين الناس في المدينتين، لكنهم لم ينجحوا يوماً في الفصل بين القلوب.‏

ليس ما بين المناطق السورية مثل ما بين سورية ومحيطها،لكن حلب على الدوام كانت - وستبقى- أكثر بكثير من مجرد مدينة ثانية، فهي الركيزة الثانية لسورية الدولة منذ الاستقلال، وربما حتى قبل قيام الدولة.وفي كل الأحداث الكبرى التي عرفتها هذه البلاد منذ فجر الاستقلال كان لحلب حضور مؤثر وحاسم، بحكم ما سبق، وبحكم دورها المتعاظم في الحياة السورية، وهو أمر أساسه ما اتصف به أهلها من براعة وحيوية وعشق للحياة. وبعض من هذا العشق تجلى في حرصهم على إتقان كل ما يعملوه، وإسباغ الجمال على كل ما يحيط بهم. فصارت مدينتهم نموذجاً غير متكرر لجمال استثنائي خاص، ببيوتها الحجرية القديمة، وأزقتها، وأسواقها المسقوفة، وجوامعها، وكنائسها، وحدائقها، وأحيائها الحديثة.تتوج كل ذلك قلعتها العملاقة الفريدة الساحرة، التي صارت منذ قرون رمزاً للمدينة..‏

امتد الجمال والإتقان إلى الحياة اليومية، فنال المطبخ الحلبي شهرة كونية بفعل تنوعه وغناه وطيب مذاقه وجمال مظهره، وهو الذي نشأ وتطور عبر زمن طويل منتقياً ببراعة ما كانت تنقله قوافل طريق الحريرمن توابل ومزروعات وأساليب طهي.مانحاً إياه خصوصية حلبية أسبغت جمالها – أيضاً- على الغناء والموسيقا حتى انتشرت سمعة الحلبيين كذواقين حيث يحتاج الأمر ذائقة مرهفة. وما حكاية الموسيقي البارع محمد عبد الوهاب مع أهالي حلب ، إلا واحدة من حكايات كثيرة تبررهذه السمعة..‏

ربما حضرت هذه الصور جميعاً، وغيرها،حين غنى مصطفى هلال، وقبله صفوان العابد لحلب في دار الأوبرا،ف(غصّا) باسمها.وكيف لا وقد نفرت الدموع من عيون حضور لم يعرف بعضهم حلب إلا لبضعة أيام، أو ساعات.ويصعب على أحد استعادة تلك المشاعر المتداخلة التي توجها الجميع في ختام الحفل بالوقوف والمشاركة بأغنية وطنية مفعمة بالأمل..‏

لأن حلب قد اعتادت عبر تاريخها الصمود في وجه المحن..‏

وعرفت بعد كل محنةٍ السبيل لقيامة حياة جديدة تعبق بالخير والجمال ..‏

www.facebook.com/saad.alkassem

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية